اطلاق اسم فيروز على ساحة البرلمان
زاوية القراء: لعل التحدي الأبرز الذي يواجه كل من يريد الخوض في موضوع كهذا هو كم الكليشيهات التي عليه أن يحاذر من الوقوع في فخها… بين ألقاب السيدة العديدة والأوسمة الكثيرة التي منحت لها وجدلية مفهوم التكريم في بلد كلبنان تحولت مهرجانات توزيع الجوائز فيه وسجاداتها الحمراء الممتدة أبدا الى مشهد ممل وتجارة تدر الاف الدولارات على منظميها الذين صاروا يستوردون الممثلين والمطربين بل والدبلوماسيين ورجال الأعمال من فرنسا وتركيا ومصر والخليج بعد أن استنزفوا أسماء المُكرَّمين اللبنانيين، بين هذا وذاك وواقع سياسي واقتصادي وأمني متأزم منقسم تؤججه صراعات القوى الاقليمية وساحات مكتظة بالمعتصمين بسبب خدمات متعطلة وفساد مستشري يبدو الحديث عن تكريم فيروز ترفا وشعارا مستهلكا أقرب الى ما يردده الساسة في لقاءاتهم المتلفزة عن حسهم الوطني وحرصهم على كرامة المواطن في الوقت الذي يعلم الجميع فيه أنهم هم السبب الأول في محنته وشقائه.
لكن ما شأني أنا وأنا العراقي المغترب في آخر الأرض والمشهد السياسي الراهن في لبنان؟ أليس من الأجدر بي أن أنشغل عوضا عنه بالوضع الكارثي في العراق بلدي الأم، ثم ما شأني أنا وفيروز؟ الاجابة على السؤال الأخير بالذات هي التي دفعتني لكتابة روايتي الأخيرة كافيه فيروز (الدار العربية للعلوم ناشرون) عن مهاجرين عرب يجمعهم صوت السيدة ويمثل لهم مهربا من واقعهم المتشرذم الذي أفلت فيه قيم كالخير والجمال ووطنا بديلا عن بلدان اضطروا لمغادرتها بعد استشرت فيها افة الصراع القبلي والطائفي … فيروز بالنسبة لنا ليست شخصا، ولعلها لم تكن يوما شخصا فقد وُلِدت حلما ومشروعا في رأس مفكر وموسيقي شاب هو عاصي الرحباني ثم استقرت فيما بعد في ضمائر ووجدان كل من آمنوا بها وساهموا في بنيان صرحها العتيد بمن في ذلك رفيق درب عاصي وشريكه في الحلم منصور الرحباني ومرورا بفيلمون وهبي والياس الرحباني وسعيد عقل وسواهم وانتهاءا بزياد الرحباني الذي ترك بصمات محببة على جدران الصرح جعلته أكثر ألفة وقربا من زائريه ومريديه.
أيّ هراء؟ كيف لا تكون فيروز شخصا وهي تغني وتمثل وتحيي الحفلات والمهرجانات منذ عقود، من أين جئت بتلك الهلوسات وعلام استندت في ادعائي الخطير هذا؟ لا بأس، فلنحاول معا فك ما يبدو طلسما فمثلكم استغربت عندما سمعت السيدة وهي تتحدث في لقاءاتها الاذاعية المعدودة عن فيروز بصيغة الشخص الثالث وتؤكد حرصها على الحفاظ على اسمها وتأريخها، قرأت كذلك حوارا صحفيا قديما لمنصور الرحباني أكد فيه أن ايماءات فيروز الشهيرة على المسرح وحركاتها ولغة جسدها هي من صنع شقيقه عاصي وتصريح ثالث لزياد الرحباني قبل عامين قال فيه أن شخصية والدته في الحياة لا تشبه صورتها على المسرح حيث تصاب بعارض المجد بمجرد أن تطأ قدماها خشبته، تضاف الى هذا وذاك شهادة فيروز المصوّرة في الوثائقي “كانت حكاية” التي تقرّ فيها أن عاصي الرحباني هو من شكل ملامح شخصيتها الفنية بل وحتى الانسانية وأنها لا تزال تستحضر وجوده معها في كل حفلاتها حيث تفتقد ارشاداته ورعايته
أذكر أيضا دهشتي عندما أخبرتني سيدة عراقية كانت قد التقت بفيروز في بيروت عن طريق صديقة مشتركة عن بساطتها ومرحها و استغرابي عند مشاهدة صورتها الاستثنائية وهي تضحك ففيروز التي عرفناها بالكاد تبتسم، لكنها أبدا لا تضحك، دهشتي تلك ربما تماثل دهشة واستنكار الكثيرين الذين قرأوا ما باح به زياد الرحباني مؤخرا عن ميول والدته السياسية، فات أولئك أن يتدبروا أن ما وشى به زياد هو قناعات نهاد حداد الخاصة وليست فيروز، الانسانة والمواطنة والأم لا الصرح، قد يفسر ذلك لنا العزلة التي فرضتها السيدة على نفسها وانقطاعها شبه التام عن الظهور في وسائل الاعلام وترفعها عن الرد عن الاشاعات والاساءات التي تطالها بين الحين والآخر … نهاد حداد (ربما بفعل نشأتها الكاثوليكية الملتزمة وأصولها القروية الجبلية) حريصة على مشروع فيروز بل ربما يجوز القول أنها نذرت نفسها له وللحفاظ على بهائه وحياديته والقيم التي يمثلها ويروج لها حتى لو اقتضى ذلك منها أن تضع نفسها في صومعة وان تحرم نفسها من الاستمتاع بحياتها وممارسة أبسط حقوقها كانسانة طبيعية، وهي على حد علمي حالة غير مسبوقة في عالم الفن العربي بل والعالمي أيضا ولذلك فمن المهم في هذه المرحلة أن نتأملها ونحتفي بها ولا أقول نكرمها، فالتكريم يكون عادة للأشخاص لكن الاحتفاء يكون بالقيم والمبادئ.
لكن كيف نحتفي بفيروز وأين؟ الأمر محيّر حقيقة فقد سمعت عن تحويل البيت الذي أمضت فيه سنوات صباها الى متحف وهو خبر جميل لكنه ليس ما أعنيه بالضبط … خطر لي قبل سنوات أن أقترح تسمية مطار بيروت (رفيق الحريري حاليا) باسم فيروز، تحمست للأمر كثيرا وقتها فكم رائع أن يكون اسم السيدة أول ما يستقبل به لبنان زواره، خصوصا وان في أوروبا سوابق لاطلاق أسماء عظام الموسيقيين على مطاراتها كمطار شوبان في بولندا وموزارت في النمسا وفيردي في ايطاليا وحتى جون لينون في ليفربول في بريطانيا، لكنني تراجعت عن الكتابة عن الموضوع عندما فكرت في العواقب والحساسيات التي سيثيرها الأمر بعد أن حمل المبنى لسنوات اسم رفيق الحريري الذي لا تزال ذكرى استشهاده الأليمة بكل مدلولاتها وتبعاتها حية نابضة في أذهان اللبنانيين، أعتقد أن فيروز هي الأخرى كانت سترفض المقترح انسجاما مع نهجها المعروف في الدعوة الى الوحدة ونبذ الفرقة وهو ما جعلها تمتنع عن اقامة الحفلات في لبنان طيلة سنوات الحرب الأهلية الطاحنة رغم أنها كانت موجودة فيه ورفضت أن تغادره حتى بعد تعرض مسكنها لقذيفة .
لكن المطار ليس الخيار الوحيد … كم جميل لو أُطلق اللبنانيون اسم فيروز على ساحة البرلمان في قلب عاصمتهم وأقاموا فيها تمثالا لاحدى شخصيات مسرحياتها كناطورة المفاتيح أو أيام فخر الدين عسى أن يلهم ذلك المجتمعين في المبنى فيضعوا انقساماتهم الطائفية والحزبية جانبا ويعملوا من أجل لبنان الذي يفترض أن يكون ولاؤهم وانتماؤهم الأول والأخير له، كم جميل أيضا لو أطلقت الجامعة العربية اسم فيروز على قاعة الاجتماعات الرئيسية في مبناها القاهري فيكون القرار ردا على ما يُتهم به العرب غالبا من رجعية وقمع للنساء والاقليات ومصادرة للحقوق واحتقار للفنون خصوصا وأن السيدة قد غنت في وللكثير من المدن والعواصم بل ان سماع صوتها الصادح في الصباحات طقس وقاسم مشترك بين معظم الشعوب العربية.
مقترح ساذج، مغرق في المثالية والرومانسية، منفصل عن تحديات الواقع وأولوياته؟ أعتقد أن العكس هو الصحيح، ففي حلكة الظلام الذي يسود حياتنا اليوم وشعور داهم بالعجز واليأس بعد أن هاجر أو هُجّر الملايين من أراضيهم بينما تتوق ملايين أخرى الى الرحيل وتخطط له نحن بأمس الحاجة الى بصيص من الأمل والى ترسيخ قيم الفن الرفيع التي شكّلت ظاهرة فيروز من غناء وموسيقى وشعر ورقص وتمثيل واخراج مسرحي وسينمائي، توازي ذلك في الأهمية حاجتنا الى استلهام الدلالية الانسانية للحالة الفيروزية من دعوة الى المحبة والتحرر والانفتاح على الآخر ومواجهة الطغيان ونبذ الصراعات العرقية والدينية … نحن بحاجة الى أيقونة تجمعنا كماريان التي انبعثت في خضم الثورة فجمعت الفرنسيين حولها ولا تزال تجمعهم حتى اليوم بما تمثله من قيم نبيلة سامية.
كتابة: علي شاكر مهندس معماري ومؤلف عراقي/ نيوزلندي، عضو في اتحاد الكتّاب النيوزلنديين.