زاوية القراء- عامٌ مرّ على رحيلك يا امي

مر عام وكأنه الدهر يا أمي..
أكتب لك يا امي الحبيبة وأنت في قبرك بعواطفي اللاهبة على رحيلك.. ابحث عن أنفاسي في جوف أحزاني وقد أخذتني صعقة الفجيعة بعيداً ومازلت أعيش تفاصيلها بكل نزف الحزن الذي ينهمر من مسامات روحي.. ماذا يمكن أن اكتب ولازال صوتك عبر الهاتف يرن في اذني.. بَيد ان وجعي أنهضني وأجلسني فلقد شعرت وكأنني أنا الذي مت..

وأنا أتجول بين حروفي وكلماتي وبين سطور ذكرياتي.. ابحث عن والدتي التي ضاعت مني منذ سنة لا أجدها بجانبي.. ولكنني أجدها في كل حرف وكلمة بين صفحاتي واجدها دائماً العنوان لكتاباتي.. صفعني القدر بيوم وليلة ولم يبقي لي سوى اثر في قلبي لا يراه إلا من علم بجرحي.. البعض يعتقد بأنني سيد الصباح وكاتب الليل ولكنني أسير أحاسيسي الصادقة.. عيناي لا تحكي ولا تروي سوى الأحزان..

ما عساي أن أقول ؟ بل وكيف أبتدئ..؟ وجوم ُومرارةٌ وألم وذهول وأنا أتصفح تاريخ الذكرى بمرارة وحسرة رافض تصديق نبأ الرحيل المفاجئ الذي لم يحن وقته بعد.. يا الهي لا أدري ماذا اكتب ! دموع دموع دموع لا تتوقف ! نعم فدموعي لا تجف إنه يوم البكاء ومقالي يمنح حزني ملامح جديدة ويضيف لوجعي أبعاداً أخرى.. حين دقت ساعة رحيلك يا امي اختبأت بين سطور حزني وخبأت ذكرياتي معك في ذاكرتي ورحت أصارع حبري في حروفي أحاول اصطياد هواء نقي بعيد عن وجع الرحيل..

امي الغالية.. لم ترحل روحك بعيداً فقد كانت على موعد مع القمر وستعود تطوف بيننا لتبعث فينا الحياة لتحرس آمالنا المعلقة بحياة أكثر نقاءً وترسم أشياءنا المبعثرة في أزقة الأمل.. هنا نقف على أبواب السماء نرتقبك قادمة من ضوء السماء وأنت تبتسمين وأنا أقول لك لقد طال غيابك يا ست الحبايب.. ما عدت أتحمل أكثر لقد طوي رحيلك عاما من الحزن والشوق يا حبيبتي..
ماما أيتها الراقدة في قبرك ألا تسمعيني؟ أريد أن أحكي أريد أن ابكي هل من يسمعني؟ هي سنة قد مضت وتمنيت إنها كانت سنة من نوم لأصحو منها وألقاك.. مضت سنة ولم يزدك الغياب إلا حضوراً.. ولم يعطك الموت إلا حياة أبهى فأراك رمزاً وفخراً..

أتساءل هل هناك حدود أخيرة يضعها الموت أمام الأحياء ؟ للموت قدسيته ولي طَعْمُ التَّوجُعِ‏ حين يغمرُني البكاءْ‏.. حين غيبك الموت في العام الماضي دقت كل ساعات العالم وكان الحزن ينتظرني ينهمر كنوح طائر غريب وقد حرّك الليل نحو نهارات جديدة وقد لامس وجك الباسم..

تحلّ علينا اليوم الذكرى الأولى السنوية لرحيلك يا امي التي أفقدني القدرة على الكتابة حتى على مستوى كتابة نعي ورثاء في ذكرى رحيلك الأولى.. أجدني عاجز عن لمَ كلماتي من شتاتها ويخونني التعبير وتهيم مني المفردات.. فالأشياء الجميلة في حياتنا تستعجل دائما الرحيل.. رحلتِ وتركتي لنا الحيرة الممزوجة بالألم والغضب.. رحلتِ وتركتينا نمارس من ورائك القهر والحزن والحسرة بالحياة في هذا الزمن الأغبر..

منذ سنة قد رحلت فسكن الحزن قلبي.. بالأمس كنت هنا واليوم هناك حيث لا أراك وأشعر بك في حياتي.. بكيتك ولكن ليت البكاء أعاد خفقان قلبك.. إن شوقي لك يفوق حدود الأشواق..

كثيراً ما تموت الأسئلة والروح فيها تنبض ونبقى أمام مرآة الحقيقة نحترق فالأسئلة المفتوحة تبقي الباب مواربا لأسئلة لا تنتهي.. وتاهت مني الكلمات وأنا مازلت أبكي عمرك بعد الرحيل..

ترى هل ستبدأ الآن أولى خطواتي نحو لقائك البعيد ؟! أفي هذه اللحظة بالذات وأنا المسكون بالكوابيس ليل نهار بعد رحيلك والعاري من أي رداء قد يعينني على مواجهة صقيع خوفي من وحشتك! أعلم إنك تحت التراب ولكن قلبي هو من ينادي وعيني هي من تنتظر اللقاء.. هذا قدري أن أكمل حياتي بدونك يا امي الحبيبة..

الحزن في قلبي والصبر في جوارحي والحياة تمضي وملامحي لازالت تشتاق اليك يا امي.. قبرك روي بفيض دموعي ودنياي بدونك لا زالت تحتضر ..ولا شيء يعوض غيابك سوى ذكراك القريبة من الروح .. لعلها كلمات تحول دون الرجوع وتبوح بشغف الجوع.. نعم شغف الجوع لفقدان الأحبة.. تمتلئ العيون بدمع حارة تحرق الوجنتين لايشعر بها غير المحب..

ماذا عساي اكتب لرحيلك.. ما شئنا الفراق إنما الموت شاء.. ماذا نقول لك أيها الموت وأنت المتمكن منا رغما عنا ؟ لكنك ايها الموت الحقيقة الكبرى في حياتنا.. أرأيتِ يا ماما ليس الموت هو الموت فعلاً مثلما ليست الحياة هي الحياة فعلاً..لقد عشت بين اللاحياة واللاموت وفلقت قلبك بينهما من أجل أن ترحلي..

تباً لهذا الأحد اللعين.. تبا لكل يوم أحد ماض أو آت.. هجوته وسأهجوه دوما في كتابتي.. نعم هذا الأحد أكرهه الذي ودعت فيه أمي الحبيبة.. أعذروني هذه إحدى لحظات الوفاء القليلة تجهض لحظة الحزن ويذبح الوجع تأجج الشوق في داخلي إليك..

آه يا جرحي المسافر في الأعماق لا زلت تستنزف كل أمل لي في الشفاء فكيف لي الآن أن أوقف حزني المجنون لرحيلك وأنت ستكون ابتسامتي آخر شيء بي يموت ونبض قلبي أول عازف لسيمفونية الرحيل بلا رجوع..

هل تعيش الفاقدات كما نعيش حياة بحسرة وعبرات مخنوقة طوال الليل وذكريات قبل النوم تجعلنا نشعر وكأننا نتقلب على جمر كيف نستطيع أم نشعر بلذة النوم على فراش وهن يتوسدن الرمال ..

عندما يكون للذكريات طقوس نرتلها أمامنا بل في داخلنا في أعماقنا كل يوم وكل ساعة فسيكون هذا الشجن و الحزن عنوانا من عناوين حياتنا.. وحين ينتخبني الحزن كوردة بيضاء لموت والدتي الراحلة أعود أتفتح ذاكرة وامتلئ بطيفها النابض قائلاً لو منحتني مساحات روحها الطاهرة أكثر اتساعاً لأقمت فيها كرنفال من الحزن والحسرة وسأنتحب مليء أعماقي..

من بعد رحيلك يا امي كل شيء تغير وأصبح مختلفاً.. بهاء رحيلك حين توقف النبض فيك أخذ مني إنسانيتي المفقودة بك والمقهورة عليك وقد يغرزني وجع الرحيل حد أخمص القلب.. هكذا عني رحلتِ يا امي وكان الليل يزداد عتمة وصمت المساء حزين.. وهكذا رحلتِ عن دنيتي وهكذا صمتت حكاياتي مع رحيلك..

أقف أمام الكثير.. الكثير لسنة مضت لأجد فيها أن استمرارية مشاعر وأحاسيس صادقة لجرح قلب نازف وفكر مثقل بذكريات موجعة ودمع عين منهمر في نهار بلون الليل وليل يطول.. أماني وأحلام تبدأ بأمنية أن لا تنتهي فعندما ترسو من رحلة الحلم على شاطئ الواقع تكتشف الحقيقة مما يزيدها ألماً وحزناً فالحياة داخل الحلم والذكرى قد تكون نعمة.. ذكريات مختلفة الصور والأثر حسبما يكون الإدراك بها ففيها ارتباط بالماضي وشعور بالحنين وإحساس بالجمال ولقاء بين السعادة و الحزن ..تدفق حبري صارخاً وضجت حروفي وارتعش الورق.. فما عاد هناك استقامة للسطور.. فالقلم ساجداً بين أناملي وقلبي شاهقاً يستنزف حزناً و أسى..

دائماً ما اجثوا على قبرك يا امي حيث تغفي برضى وسكون وانثر أحرف صدقي ورداً وأدمع وجعي عطراً.. جمرة فراقك تلهب دهاليز قلبي والزمن أصبح ممزقا بعد رحيلك.. أموت ألف مره من أجل أن أراك مرة.. أنا اعيش نشوة اللقاء عند زيارتي لك فأذوب في ترنيمة الوجد والموت والفراق بروح ثائرة.. لقد احصيت عدد حبات الرمل فوقك وحملتها وقبلتها لأبعث من خلالها أشواقاً ملأتني وشكوى من وحدة حضنتني.. جريحٌ أنا جرحٌ لا يندمل ومخاصمٌ لقدر أسود تاريخه أجبرني على فراقك وسرق فرحةً سكنتني واستودع قلبي أشجاناً ولدت من جوف أشجان.. أنا حُزن حكايةٍ خُطّت حروفها حرقة منذ البداية وهي تدرك أن لا خاتمة لها سوى البداية.
.
حتى والدي الذي يحاول التماسك امامنا بدأ بالانهيار فحياته صعبة بدونك فقد كنت الهواء الذي يتنفسه ومازال يشعر بوجودك في البيت ويعلم أن روحك تزوره لتطمئن عليه فهذه عادتك ياحبيبتي..

كلما عاودت قراءة المقال تخنقني العبرات وتذرف الدموع من عيني لدرجة انها تحول بيني وبين رؤية الحروف امامي واتوقف لبرهة لمسح دموعي لأعاود القرأءة من جديد ..ماذا تبقى في الحياة بعد حنان الأم.. كيف نستطيع جمع أشلائنا لإكمال مسيرتنا فيها بدون نصح او دعاء أو أخذ مشورة من الإنسانة التي تحبنا أكثر من نفسها..

لا أدري ماذا أقول وكيف اصف شعوري فما بداخلي يشعر ولا يكتب فكل الكلمات تعجز عن التعبير عن مدى ألمنا ومصابنا فيك يا أمي وسأظل ابكييك ماحييت وانتظر لقياك فلم يعد للوقت ولا للحياة أي معنى من بعدك.. أنت ملاك خلق ليعيش في الجنة وليس في الأرض رحمك الله ياست الحبايب..

رفقاً بأهدابٍ حملت مرّ الدموع ورفقاً بقلبٍ استودع نصفه تحت التراب سوف نبكي ونبكي.. اليوم نزور الأحباب في قبورهم ونذرف الدمع حباً وشوقاً إليهم.. وغدا يزورنا الأحباب هكذا سنة الحياة.. سبحان الحي الذي لا يموت..

من خاصرة طرابلس الجريحة والمدمومة وأنا وسط زحمة الفقدان التي ترنو إلى روحك الطاهرة أهديت نصفي المتلاشي للقدر وما تبقى تبنته حبات الرمل التي فوق قبرك الطاهر.. ما بين مقبرتين كنا نلتقي حتى نكون أحياء بعد موتك وقد يكون الموتُ صاحبنا الأخير ونحن من نسير إلى أماكن موتنا.. ما أقسى أن ترحلي دون أن تتركي عنوانا.. إلى اللقاء ماما اقولها وأنا أهمّ بالرحيل حين يخبرني الرجل انه علي الرحيل فلقد حان وقت اغلاق المقبرة أضع قبلة على ضريحك وحناناً من كبد الورد..

لروحكِ الملائكية الطاهرة النقية التي تبتسم من السماء الفاتحة..

ابنك المكسور يحيى

Back to top button

Adblock Detected

Please disable ads blocker to access bisara7a.com