رأي خاص- هل رأينا الشحرورة في (الشحرورة)؟
منذ عدّة سنوات وعندما بدأ الحديث عن عمل تلفزيوني يجسّد حياة الفنانة الكبيرة صباح، تأملّنا خيرًا في أن يأتي عملاً ضخمًا ومميّزًا يليق بقيمة هذه “الأسطورة” التي لن تتكرّر. وما إن علمنا أنّ شركة “الصبّاح” هي التي سوف تتكفل بالإنتاج شعرنا بارتياح كبير لما لهذه الشركة من تاريخ مشرّف في عملها من جهة، ومن جهة أخرى لأن محبة كبيرة واحترام متبادل يجمع بين ” الصبّاح” و “صباح”. إلاّ أن معظم هذه الآمال بدأت تتلاشى شيئًا فشيئًا مع اقتراب التحضيرات والتصوير من النهاية والدنو من بداية رمضان 2011 وهو تاربخ بدء عرض “المسلسل – الحدث”، لكثرة ما شهدنا من انتقادات وتساؤلات وقيل وقال ودعاوى قانونيّة وتصريحات إعلامية من أطراف متعددة. وبالرغم من كل ذلك إنتظرنا مسلسل “الشحرورة” كوننا نحمل حبّا كبيرًا لهذه العملاقة ونؤمن بموهبة النجمة كارول سماحة الفنيّة من حيث التمثيل والغناء والإستعراض آملين ان نرى فيها الشحرورة الجديدة. ولكن “أين المسلسل من كلّ ما قلناه؟
الإنتاج وفريق العمل
لا يمكننا أن نغفل أنّ إنتاج العمل كان جيداً وقد ظهر هذا من خلال الديكورات واختيار أماكن التصوير في عدّة بلدان كمصر وسوريا ولبنان ولكن لم يكن بالحجم المتوّقع الذي يليق بكبيرة من لبنان. كما أنّ فخامة الملابس والشياكة التي ظهرت بها ” الشحرورة ” تدلّ على أنّ الجهات المنتجة كان لديها الهمّ بأن تُطلّ على المُشاهد اللبناني والعربي بأبهى صورة. كذلك اهتمّ المنتجون بإشراك كبار النجوم في هذا العمل وخصوصًا نجوم الدراما اللبنانية وذلك بغية إيصال الممثل اللبناني إلى الوطن العربي من خلال إنتاج درامي كبير،أمثال: رفيق علي أحمد، جوليا قصار، كارمن لبسّ، عمار شلق، كارول الحاج، بيار شمعون، ألكو داود، جناح فاخوري، جوزف بو نصّار، مجدي مشموشي، باسم مغنية، يوسف حداد وغيرهم.
إلاّ أنّه وبالرغم من كلّ هذا، لا بُدّ لنا أن نلفت إلى أنّه غاب عن بال الإنتاج أن ينقلنا إلى الأجواء السياسية التي كانت سائدة حينها كالإنتداب الفرنسي عند نشأة صباح في لبنان، والإنتقال من الحكم الملكي إلى حكم عبد الناصر في مصر، فلم نرَ بوضوح هذه الأمور المهمة والتي كان لها تأثير على حياة صباح الفنية. كما أنّه لا بُدّ لنا من إبداء الإعجاب في الموسيقى التصويرية المستوحاة من أغاني الصبوحة الجميلة جدًا، كذلك أغنية ” ملكة على الأرض ” التي تصف حياة صباح بشكل كبير. ومع ذلك يبقى تحفظنا على اللهجة المصرية التي رافقت مقدمة وخاتمة المسلسل مع العلم بأنّ الصبوحة تؤكّد دومًا أنّها لبنانية ومصرية على نفس القدر. وإن استرسلنا يبقى الكثير لنقوله بالسلبي والإيجابي لكن علينا التوقّف عند نقاط أخرى.
نمط سير الأحداث
عند مشاهدتنا مسلسل ” الشحرورة ” نرى تناقضًا شديدًا بين بطء سير الأحداث في حلقاته الأولى وتسارعها الرهيب في الحلقات الأخيرة. فعلى سبيل المثال نرى صباح في بداية المسلسل كيف تنام وتستيقظ وتلعب مع إبن الجيران وتذهب إلى السينما وتتشاجر مع والدها وكأننا نعيش داخل منزلها يوماً بيوم. وكذلك الأمر بالنسبة لزواجها بنجيب الشماس وسير الأحداث ” على الدقة ونص ” والتركيز على تفاصيل عائلية كمشاكلها مع أهل زوجها ومرضه وكل هذه الأمور لا تفيد الحبكة الدرامية ولا تُغني العمل إنما تجعل المُشاهد يغرق في تفاصيل لا تقدّم ولا تؤخّر في مسيرة صباح الفنية. كما لا يمكننا أن ننسى قصة ” جميلة ” التي أصبحت الشغل الشاغل للمؤلف والتي كدنا أن نتعرف على حياتها وتفاصيلها أكثر من حياة صباح نفسها وكأنها أصبحت البطلة الثانية للمسلسل بالرغم من تأكيد جهة مقرّبة من صباح انها غير موجودة بالاساس فخالة صباح كانت تدعى “نظيرة” وزوجها توفي قبل ان تولد صباح.
وعلى خلاف الحلقات الأولى يلفتنا تسارع الأحداث مع اقترابنا من نهاية المسلسل حيث لم نعد نرى سوى زواج جديد لـ صباح في كل حلقة. وأصبحت الحلقة الواحدة تختصر عدة سنوات وتخلط الأحداث بعضها ببعض وربما ذلك ” لضروراتٍ درامية “. هذه الأخطاء هي من حيث الشكل أما من حيث المضمون فحدِّث ولا حرج. فإن كانت صباح قد تزوجت عدّة مرّات وعانت من المشاكل والخيبات مع أزواجها فهي أعطت الفن ستين سنة وأكثر من حياتها غناءً وتمثيلاً واستعراضًا ضمن أعمالٍ خالدة ونجاحاتٍ لا تُمحى من الذاكرة.
فأين التركيز على تحضير مهرجانات بعلبك مع الرحابنة وروميو لحود ووديع الصافي في مسرحيات مهمة مثل: موسم العز، دواليب الهوا، القلعة وغيرها. هل كانت صباح، على مرّ السنين، عابرة طريق في هذا المهرجان أم ركنٌ من أركانه؟ وهل يكفي أن نختصر هذا التاريخ بأغنية أو اثنتين صوّرتا على أدراج القلعة؟ أيُعقل أن لا نرى وديع الصافي وهو الأستاذ الكبير ورمز لبنان ورفيق درب الصبوحة في الفن إلاّ في مشهد واحد وكأنّه شخصٌ عابر في مشوارها الفني وليس له أي تأثير أو دور في حياتها؟ أين ” الأوووف ” التي كانت تصدح بها الشحرورة حتى يتعب الجمهور من التصفيق ولا يتعب نفسها من غنائها؟ أين المَشاهد التي تجمع بينها وبين بليغ حمدي والموجي وغيرهما من الملحنين والشعراء المصريين الكبار الذين أعطوها عشرات وعشرات الأغاني؟ فهل حياة الصبوحة في مصر اقتصرت على علاقتها بـ عبد الوهاب وفريد الأطرش وعبد الحليم؟ مع التقدير الكبير لهذه الأسماء لما تحمله من قيمةٍ كبيرة وتاريخ فني عريق.
هل يُعقل أن تكون المَشاهد التي تتناول حياة صباح الفنية لا تشكّل إلاّ نسبة قليلة من مجمل المسلسل وتُعالج بشكل سطحي؟ بالوقت التي تحتل حياتها الشخصية تسعين بالمئة منه؟ وهل نحن نتناول حياة الأسطورة في هذا العمل أم مجرّد إنسانة عادية تحمل إسم صباح؟ فإن كان هدف المؤلف تسليط الضوء على الجانب الإنساني إضافةً إلى الجانب الفني من حياة الشحرورة لِمَ لَم يُقِم على الأقلّ توازنًا بينهما وذلك للأمانة في إيصال صورة أوضح عنها؟ هي التي بحسب أغنية المسلسل “… فرحت، نجحت، ضعفت، وقفت…قابلت ناس ” فلم نرها إلاّ في ” ضعفت ” و ” قابلت ناس “. بالفعل يُحزننا أن يغفل المؤلف كلّ هذه الأحداث المهمة ويستبدلها بأُخرى من الخيال ممّا يدفعنا للتساؤل حول المزج بين المعلومات والوقائع وخيال المؤلف.
المعلومات والوقائع وخيال المؤلف
مهما ادّعينا بأننا نعرف معلوماتٍ ووقائعَ عن حياة الصبوحة فبالتأكيد إننا نعرف أقلّ بكثير من الحقيقة الكاملة التي تبقى مُلكًا لها وحدها. لكن بالرغم من هذا فإنّ صباح قد ملأت جميع وسائل الإعلام تقريبًا بحواراتٍ ومقابلات عن حياتها الفنية والعائلية وكانت كتابًا مفتوحًا لا تخفى صفحاته على أحد. حتى أنها وضمن برنامج ” مشوار حياتي ” الذي عُرض عام 2000 على شاشة المستقبل أخبرت بنفسها قصة حياتها لجميع الناس. فأي متابع ومحبّ للصبوحة أصبح يعرف الكثير عنها دون الحاجة ليكون صحافيًا أو باحثًا أو أديبًا لأنها بكلّ بساطة هي واضحة وضوح الشمس ولا تخفي شيئًا عن أحد. من هنا نطرح السؤال هل يجوز لكاتب المسلسل أن لا يطّلع على كلّ هذا الأرشيف الذي حتمًا هو في متناوله ومتناول جميع الناس؟ أقول هذا لأن مراجعة كل تلك الأمور هي أوّل وأقلّ ما يجب فعله، إذ أنّ من واجبه الرجوع إلى صباح شخصيًا لاستيضاح ما يجب استيضاحه منها كونها على قيد الحياة أطال الله بعمرها. لقد أتى سيناريو “الشحرورة” مخيّبًا للآمال، إذ أنه وضع أمامنا عملاً دراميًا لا يمتّ إلى الحقيقة بصلة إلاّ من البعيد البعيد، وحيث خيال المؤلف كان له الدور الأبرز.
من غير المسموح أن يُعطي الكاتب لنفسه الحق بالتلاعب بالحقائق والوقائع وقلب التواريخ وهو يكتب قصة حياة إنسان وُجد في هذه الدنيا بحجة الخيال والتشويق وما سوى ذلك من حجج غير مقنعة لتبرير ضعفه أو قلّة خبرته أو عدم البحث الجديّ عن الحقائق أو لغاياتٍ أخرى لا نعرفها. ففي الحلقة 29 مثلاً، هل من المعقول أن تسمح صباح لـ فادي لبنان أن يكلّمها بهذه الطريقة الفوقبة التي تكاد تصل إلى حدّ الإهانة والشتم وخصوصًا عندما يقول لها ” ضبّي لسانك يا صباح ” و ” كوني أكيدي إذا انا تركتك وفلّيت مش رح تلاقي حدا يفوّتك عالحمام ” ثم يرمي بها أرضًا؟ وهنا أسأل من أشرف على النص بلكنته اللبنانية؟
لقد صرّحت صباح في أكثر من مقابلة بأنّ فادي لم يقل لها يومًا أي كلمة مسيئة أو مهينة وبأنه لم يرفع يده عليها ولو حصل ذلك لما كانت تركته إلى جانبها يومًا واحدًا.وإن لم يكن ما صرحت به صحيحًا, فأين الضرورة الدرامية التي سمحت للمؤلف تخيّل الصبوحة تُهان وتُضرب من فادي لبنان؟ كما أنه في نفس الحلقة تبرز الشحرورة في مشهد من فيلم ” ليلة بكى فيها القمر ” على أنّه مسرحية من إخراج فادي علمًا بأنّ الفيلم كان عام 1981 وهو أخرج مسرحيتيّ ” الأسطورة ” و ” كنز الأسطورة ” عامين 1995 و 1997.
بعد كلّ هذا السرد أقول هنيئًا لنا بخيال المؤلف الذي أتحفنا وابهرنا وربما كي يجمّل صورة بعض الناس الذين مرّوا بحياة صباح هي التي لم ترغب يومًا بالإساءة إلى احد، قد أساء لها شخصيًا واظهرها ضعيفة ومستسلمة ومنهزمة ووحيدة. ولكي تكتمل هذه الصورة المشوهة، ظهرت في الحلقة الأخيرة كأنها تستجدي المال هي التي لم تزل تُعطي حتّى هذه الساعة. كذلك رأيناها وحيدة لا أحد يزورها وكأنها تنتظر الموت ساعة بساعة وهي لا زالت حتى هذا اليوم ورغم تقدّمها بالسن وتعرّضها للعديد من الوعكات الصحية، تدير كلّ ما يتعلّق حياتها بإشارة من يدها وتضيء على كلّ مَن حولها كما أضاءت ” كارول سماحة ” هذا المسلسل بأدائها التمثيلي الرائع، مع الإشارة إلى الصعوبة في أن تلعب أي شخصية دور الشحرورة.
كارول سماحة
هذا الإسم الذي برز في المسرح الرحباني تمثيلاً وغناءً واستعراضًا وأنجز العديد من الأعمال المسرحية مثل: “آخر ايام سقراط”، “ملوك الطوائف” و”زنوبيا” ، و”قام في اليوم الثالث” وغيرها كما ظهر في أعمال تلفزيونية عديدة نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر ” إسمها لا “. بعد ذلك اتجهت كارول نحو الغناء وتفرّغت له وبرعت فيه أيضًا كونها تمتلك الموهبة الكبيرة والمقدرة الصوتية. لقد كان اختيار كارول لدور الشحرورة صدمة إيجابية لنا وللشحرورة نفسها لأننا ندرك إمكانيات هذه الفنانة المتميّزة.
لقد برعت كارول تمثيليًا في ” الشحرورة ” مع التأكيد بأنها لم تُقنعنا بالشكل في الحلقات الأولى إلاّ أنّ الأداء الأخّاذ فيما بعد قد جعلنا نتفاعل معها على أنها فعلاً الشحرورة مع علمنا المسبق بأنها كارول. إنّ الملاحظات الكثيرة والنقد الكبير الذي تناول مسلسل ” الشحرورة ” بكلّ موضوعية أجمع أيضًا على تمثيل كارول الجيّد جدًا التي استطاعت أن تجسّد مراحل عمرية مختلفة ببراعة وهذا أمر صعب جدًا. إنّ الأخطاء الكثيرة التي ظهرت في هذا العمل لا يجب أن تثنينا عن قول كلمة حقّ فيما هو جيّد وناجح وهذا ما يدفعنا للتأكيد بأنّ ” كارول سماحة ” هي علامة فارقة في الغناء والتمثيل، ولقد أثّرت بي شخصيًا المشاهد التي جمعتها بابنها صباح وابنتها هويدا.لقد رأيتُ في كارول كل عاطفة الأم خصوصًا عند لقائها هويدا في المستشفى. نتمنّى أن يكون ” الشحرورة ” نجاحًا إضافيًا لكِ في مسيرةٍ طويلةٍ من نجاحاتٍ مستمرة.
” الشحرورة “
بعد متابعتنا المسلسل للنهاية أصبح بإمكاننا أن نبدي رأينا حوله، هذا ” العمل – الحلم ” الذي توقّعنا أن يكون بمثابة وسام تكريمي للصبوحة من قبل مَن عرفها وأحبّها وبطاقة تعريفٍ عنها للذين لم يعرفوها وللأجيال القادمة، فلم يكن لا ذلك ولا تلك. لقد قال المؤلف فداء الشندويلي يومًا بأن ثلاثمئة حلقة لن تكون كافية لإبراز حياة صباح بكاملها فكيف بثلاثين؟ لذلك نقول لك يا أستاذ فداء كان الحريّ بك الإلتزام بالوقائع على الأقل وإقامة التوازن بين الشخصي والفني كي لا تتشوّه صورة صباح بالذي كتبته. مع الأسف رأينا حياة ” الأسطورة ” تُختصر بعلاقةٍ متوترة مع والدها وسبع زيجات وخلافات مع ازواجها فهل هذه هي حياة أمبراطورة فنية عظيمة؟
تناقضات وأخطاء إخراجيّة للمخرج أحمد شفيق خيّبت لنا امالًا بأن يكون هذا العمل للتاريخ وكلّ الأجيال في المستقبل التي ستستطيع معرفة حياة الاسطورة اللبنانية العربية “صباح”.
لقد سمعنا أقاويل كثيرة بأن صباح كانت على علم بكلّ تفاصيل المسلسل قبل عرضه، ولكن سمعنا أيضًا وفي عدّة مناسبات، بأنّ الصبوحة إبدت ملاحظات منها شخصيًا أو بواسطة ” كلودا عقل ” إبنة شقيقتها ولم تؤخذ بعين الإعتبار. فهل نلوم الشحرورة أو مّن كان وراء كتابة هذا العمل الذي صرّح مؤخرًا بأنّ صباح لم تتدخّل في كتابة ” الشحرورة “؟ في الختام لا بُدّ من الإشارة إلى أنّ صباح قد ظُلمت كثيرًا في حياتها من قبل كُثُر إلاّ أنّ ” الشحرورة ” أتى أشدّ ظلمًا عليها لأنّه شوّه صورتها وأتى اقلّ بكثير من توقعاتنا، لذا كان من الافضل الانتظار حتى رمضان ال 2012 لتتمكن كل الاطراف في المسلسل لشرب حياة صباح وعدم سلق العمل والاسراع في التصوير. لذلك إسمحوا لنا أن نسأل هل فعلاً رأينا الشحرورة في ” الشحرورة “؟