رأي خاص – الاغنية اللبنانية بين مطحنة دعمها على الاذاعات وصراعها على البقاء
باتريسيا هاشم – بيروت : نعيش في الوطن العربي زمن الاغنية المؤقتة او اغنية “الدعم” التي تعيش على هواء الاذاعات مدة دعمها وتموت فور قطع اوكسيجين الدعم عنها…
ظاهرة مقلقة وخطيرة في آن…فأن يكون عمر أي أغنية قصيراً بهذا الشكل أمر غير صحي ، يضرب بعرض الحائط ابداع صناّع هذه الاغنية من شاعر وملحن وموزّع وحتى الفنان الذي يجتهد ويشقى لأشهر لينتج أغنية يدرك سلفاً ان عمرها قصير، فيفقد الحافز والدافع والأمل ليستمر بالعطاء والابداع كمن يكتشف ان احد ابنائه يعاني من مرض عضال وايامه باتت معدودة فيجافي حياته ومستقبله وكل طموحه لكي يبقى الى جانب ابنه ، يشبع من حضوره في حياته ويودعه على طريقته . هكذا أصبح حال الاغنية الجديدة التي تولد من رحم الابداع وتموت على أسرّة الدعم …. وتلفظ انفاسها الاخيرة في الحادي والثلاثين من كل شهر.
لا شك في ان هذه حال الفن اليوم في لبنان تحديداً، حيث تحوّلت الاعمال الفنية الى تجارة مربحة للاذاعات التي تعاني من أزمة اعلانات حقيقية اليوم في السوق اللبناني ولكن هذا لا يعطيها الحق ابداً في ان تساهم في تردّي الذوق العام وانحدار مستوى الاغنية فتحولت معظم الاذاعات الى مستوعب لنفايات الابداع ، تلك التي تقتصر على محاولات فاشلة لبعض الشعراء والملحنين في حين مهمتها الاولى كوسيلة اعلام مسموعة ان تتعاطى مع هذه الانتاجات العشوائية بمسؤولية كبيرة فتحول الاغنيات الهابطة الى قسم الrecycling او اعادة التدوير علها تحفّز الفنان المستهتر بما يقدّم لمضاعفة مجهوده والبحث عن اغنيات تثري هواء هذه الاذاعات وأُذن المستمع فتساهم الاذاعات في غربلة ما يستحق ان يُبّث على هوائها دون ان تتأثر عملية الدعم وبالتالي يكون الربح مشتركاً ومتبادلاً بين الفنان والاذاعة ولكن في جميع الاحوال هذا لن يطيل عمر الاغنية الذي ينتهي مع انتهاء الدعم، الا في حالة واحدة ان كانت الاغنية عملاً ابداعياً متكاملاً ومكتمل العناصر واهم هذه العناصر الكلمة أولاً وآخراً وهذا ما حسمه تاريخ الاغنية العربية وحتى الغربية فلا يبقى في ذاكرة الجمهور عادة الا الاغنيات التي علّمت كلماتها في قلبه وفي كيانه وطبعت حالات عايشها ولحظات عاشها وفي معظم الاحيان تكون هذه الاغنيات عاطفية او وطنية ومن النادر ان تعيش الاغنيات الايقاعية في وجدانه لأنها وليدة مكان وزمان معينين وتكون مرحلية وموسمية لذا كل الاغنيات التي خلدها التاريخ الفنّي هي الاغنيات التي تضمنت شجناً ووجعاً وألماً وعشقاً ومشاعر عظيمة وتجارب حياة وحبّ. انطلاقاً من هنا نسمع عن موجات غنائية في الفنّ الا انها سرعان ما تستكين وتنتهي مع انتهاء العاصفة والظروف التي ولدت منها….
كل ذلك لأقول ان دعم الاغنيات في الاذاعات بالنسبة لي هو مطحنة الفنّ الحديث الذي يضمن انتشاراً مؤقتاً يتلاشى فور انتهاء الدعم ولكن تبقى المسؤولية على الفنان الذي يجب ان يبحث دوماً عن أغنيات خالدة وهذا أمر صعب في ايامنا هذه وربما مستحيل الا ان الصراع على البقاء على رفوف المكتبة الموسيقية رهن باختيار الكلمة اولاً، فهي ليست صفصفة للحروف كما أصبحت عليه اليوم انما هي عصارة مشاعر تفوق الوصف وحالات انسانية ابداعية ونتاج فكر فني استثنائي والوقت هو وحده الكفيل بفرز الاغنيات ، فيذهب معظمها الى العدم ولا تستمر الا تلك التي عانقت الكلمة وابت الا ان تبّث فيها الحياة…