خاص- قراءة فنيّة في واقع حفلات صيف لبنان: تقدّم ملحوظ للفنان الأجنبي، فعلى من تقع المسؤولية؟
لم يكن حفل الفنان المصري تامر حسني في الفوروم دو بيروت مجرّد حدث فنيّ عادي على خريطة المهرجانات الصيفيّة اللبنانيّة هذا العام. فالفنان المصري غنّى وأمتع وأشعل المسرح وملأ الصالة بآلاف الحضور وغادر مخلّفًا وراءه دهشةً وصدمةً وتساؤلات. ما الذي حدث ليل الثامن من تموز/ يوليو في مدينة بيروت؟ من اين توافدت تلك الحشود حتى بدت أشبه بجبال مسكونة بكائنات بشريّة؟
ولماذا تامر حسني بالذات وليس ايّ فنان لبناني سواه؟ قد يسأل البعض، وأين المنطق في هذا الطرح، أولم ينشأ اللبناني على ثقافة حبّ الحياة ويعتد على أسلوب حياة السهر الذي يتفوّق به على أشقائه في البلدان المجاورة؟ طبعًا هو كذلك، لكن العجب، كلّ العجب، في ان تستعيد الحياة الفنيّة دورتها الحيوية بعد ركودٍ عامٍ نتيجة الأزمة الاقتصادية وانتشار وباء كورونا، فجأة ومن دون سابق انذار، مكرّسةً شرخًا كبيرًا بين نوعين من الاقبال على الحفلات، وهو اختلاف لا يمكن الاستخفاف بمدلولاته ويطرح علامة استفهام كبيرة: لماذا تشهد حفلات الفنانين العرب والأجانب اقبالاً كثيفًا يتخطى الآلاف وبأسعار مرتفعة جدًّا؟ فيما تنخفض نسبة الحجوزات في حفلات الفنانين اللبنانيين الى درجة ان يُعوَّض عنها بالدعوات الخاصة لملء الشغور بما يوحي بأن تلك الحفلات قد حققت نجاحًا واقبالاً جماهيريًّا كثيفًا.
فهل تراجعت حظوظ الفنان اللبناني على حساب الفنان الأجنبي وعلى أرضه بالذات؟ وما هي الدوافع؟ أتقاعس من قبل الفنان اللبناني، ام محاولة تغييب متعمّدة؟ أم لأنّ الفنان الأجنبي يقدمّ أجمل الأغنيات، فيما يعجز الفنان اللبناني في الوقت الراهن عن ارضاء ذوق جمهوره؟ ام لأن “كل شي فرنجي برنجي” اي نحن شعوب ننحاز دائماً للغريب على حساب ابن البلد سيما وان حفل تامر حسني الأخير شهد حالات اغماء عجيبة لم نشهدها الا في التظاهرات ابان الثورات اللبنانية؟
سؤال توجّه به موقع “بصراحة” الى الناقد الفنيّ والصحافي المخضرم الدكتور جمال فيّاض، الذي هو على تماس مباشر مع الوسط الفنيّ وما يدور على الساحة وفي الكواليس، والأجدر على تحليل واقع ينحدر الى مستوى كبير من الخطورة ويهدّد كيان الفنّ اللبناني ومصير فنانيه في عقر دارهم.
يحاول الدكتور فيّاض التخفيف من وطأة السؤال في معرض ردّه عليه، مشدّدًا على ان لا داعي للهلع بوجود عوامل نفسية تلعب دورًا بارزًا في تهافت الجمهور على حضور حفلات المطربين الأجانب. فباستثناء شهرتهم ونجاح أغنياتهم، ثمة شعور لدى الجمهور بأنّه لو تخلّف عن حضور حفلاتهم فلن تسمح له الظروف مجدّدًا بحضورها، او ربّما قد تطول المدة الزمنيّة الى حين حدوثها في المدى المنظور، وهذا ما يحصل في الجهة المعاكسة حين تتهافت الجماهير العربيّة على حضور الفنان اللبناني على أرضها. ولعلّ حفلات نانسي عجرم وإليسا وعاصي الحلاني وراغب علامة وآخرين مثال حيّ على ذلك، فهم حين يتوجّهون الى مصر او تونس على سبيل المثال، يحشدون جمهورًا كثيفًا يفوق بأضعاف جمهورهم اللبناني في وطنهم.
وأبلغ الأمثلة على ذلك ما كان يحصل أيضًا في سالف الأزمان حين كانت تحيي الفنانة أمّ كلثوم حفلاً غنائيًّا في لبنان، فكانت تؤمّها الحشود وهي تدرك سلفًا ان الحفل لن يتكرّر قبل عشرات السنين من حدوثه، او حتى ما كان يجري في زمن مسرحيات الرحابنة على مدرّجات بعلبك الى درجة الا يخلو مقعد لثقة من الجمهور المشارك بأنّ المسرحية التي تُعرض لثلاثة ايام فقط، لن يتكرّر عرضها على مسرح آخر. وفي الإطار عينه، يتذكّر فيّاض حفلاً فنيًّا للسيدة ماجدة الرومي في احدى الدول العربية، حين نفدت البطاقات الى درجة ان تحوّلت عملية البحث عن تذكرة كالسعي الى توفير خدمة مقابل خدمة.
وينتقل الدكتور فيّاض الى عامل آخر من آثار النجاحات التي يحققها الفنان الأجنبي، وهو عامل الترويج والاعلان الذي يتكئ عليه المتعهد مسوّقًا خطة نفاذ التذاكر تعويضًا عن المصاريف التي تكبّدها في إحضار الفنان وتغطية نفقات رحلته وإقامته ومستحقات فرقته الموسيقية وسائر الرسوم والرخص، ولا يتحقّق كلّ ذلك إلاّ بإحداث ضجّة اعلانيّة تسبقها شهرة الفنان ونجاح اغنياته، على ان المتعهد يعوّل خلال موسم الصيف على الاستعانة بالفنان الاجنبي ويمنحه أولوية على الفنان اللبناني، بحيث يغيب فنانون كثر عن المهرجانات في موسم فنيّ صاخب يضجّ بحضور المطربين العرب وسائر الجنسيات، فهل يتمّ ذلك بسعي من المتعهد الذي يبغي الربح المادي أوّلاً، ام لأنّ اللبنانيين ينبذون بعضهم بعضًا ويفضلون تدليل الفنان الأجنبي على حساب ابن البلد؟
يشير الدكتور فياض الى ان المتعهّدين والمنظّمين واصحاب الحفلات لا يتّصلون بالفنان الاّ اذا كان حصانًا رابحًا، اي ان يكون الاكثر طلبًا والإسم الذي يدرّ اموالاً. ومن الطبيعي الا يلهث المتعهد خلف فنان لا يستقطب جمهورًا، مشيرًا بين هلالين الى ان ثمة فنانين كان المتعهدون يجرون خلفهم وباتوا هم يركضون خلف المتعهدين . والمتعهد لا يتجاهل عادة ايّ فنان ناجح، فيما الفنان الناجح لا يتعامل الاّ مع متعهد يدرك سلفًا انه سلّم مصيره لأيدٍ امينة.
وردًّا على سؤال حول المعايير التي يصنَّف بواسطتها نجاح الفنان في ظلّ التحايل أحيانًا كثيرة على تخفيض سعر البطاقات كي يتسنى للمقربين من الفنان حضور حفلاته، او لجهة التستر على الحقيقة في ما له علاقة بمبيعات الألبومات او نسب مشاهدة الاعمال المصورة التي يتمّ التلاعب بنتائجها بواسطة التقنيات الرقمية ، فيجيب فياض بأنّ سعر تذكرة الحفل يلعب دورًا اساسيًّا في تحديد حجم نجاح الفنان ، لا سيّما لدى الفنان اللبناني الذي كلمّا نجحت له اغنية ضاعف من أجره في لبنان وزاده اربعة أضعاف خارجه . وما يحصل في لبنان مرادف تمامًا لما يحصل في البلدان المجاورة، فالفنان عمرو دياب على سبيل المثال لا الحصر، يكتفي بما لا يزيد عن مئة ألف دولار في مصر، بينما يشترط خارج بلده أجرًا مضاعفًا، محتسِبًا عدد الحضور ونوعية الجمهور وسعر البطاقة والتكلفة والايرادات، مع ما يزيد عليها من حصة للمتعهد في الأرباح، الأمر الذي ينطبق ايضًا مع ما حصل في حفلتَي تامر حسني وكاظم الساهر الذي ضمِن جمهوره بتهافت السواح العراقيين والمغتربين العرب العاشقين لفنّه.انها سياسة العرض والطلب.
ويتابع فياض في معرض تحليله في ما خصّ تصنيف نجاح الفنان، بأنّ غياب الملحنين اليوم حجب عن السوق الأغنية الضاربة، متسائلاً اين هو الملحن القوي الذي يطرح عادة في السنة ما لا يقلّ عن لحنَين ناجحَين؟ ففي السوق الفني اليوم ما يقارب الثلاثة او الاربعة ملحنين الذين يوزعون عددًا من الألحان بالكاد يُنفّذ منها لحنٌ او لا ينجح على الإطلاق. انّه التقصير عينه في الابداع اللحني الذي وان وُجد فإنما يولد اغنية ناجحة تدفع بدورها الفنان نحو القمة . إنّ اي فنان يتخطى الخمس سنوات من دون اصدار جديد، لا بدّ من ان يتراجع سوقه فيخفّ الطلب عليه وينخفض عدد حفلاته وتخبو شهرته. ويحصل احيانًا ان يظهر فنان ناشئ بأغنية ناجحة فيتصدر المشهد ، بمعزل ان استقرّ عند هذا الحدّ او استمرّ في الصعود. ثمة فنانون لا يزالون يحافظون على صعودهم وهم حتى لو امتنعوا عن الانتاج فإنّهم لم يتراجعوا ، بعكس نجوم الاغنية الواحدة . اذا فالمشكلة الأساسية في الوطن العربي تكمن في انتفاء الملحن القوي، وقد خطونا في حالة من الركود، باستثناء بعض الفنانين الذين يواصلون تقدّمهم كعمرو دياب مثلاً، وهو الاكثر تجددًا بالرغم من تشبّثه بإيقاع معيّن لا يحيد عنه لكنه يمنح اغنياته بعض البهجة، مثله مثل اليسا التي تواكب تجدّدًا يشوبه احيانًا بعض التكرار . ويعرّج الدكتور فيّاض على بعض الملحنين متسائلاً عن غيابهم . فبالنسبة اليه سمير صفير في إجازة ، وبلال الزين في هجرة عن وطنه ، أمّا هشام بولس فيقوده الكسل، فيما ينتظر يحيي الحسن من يقصده من المغنين لشراء لحن. وفي مصر الأمر سيّان، فأين وليد سعد الذي صنع اغنيات وائل جسار الناجحة وانكفأ؟
ويختم الدكتور فيّاض تحليله لمشهد نجاح الفنان العربي، فيقول “لقد دخلنا اليوم في مرحلة مخاض حيث فقدت الأغنية العربية هويتها وتاهت بين اللحن الشرقي والغربي. فحتى اغنيات حسين الجسمي خسرت هويتها الخليجية وضاعت في متاهات الرومانسية وآلات الكمنجة والتوزيع الأوروبي والغربي. ويستعيد فياض حقبة زمنية تمكّن خلالها حميد الشاعري في زمن التسعينيات من ان يخلق شخصية اغنية عربية جديدة غلب عليها الايقاع الغربي ونجح بواسطتها عشرات الفنانين في مصر ولبنان، ليظهر صلاح الشرنوبي من بعده معيدًا اللحن الشرقي الى مكانه الطبيعي ضمن تركيبة جميلة وفريدة وضعت الاغنية في قالب متقن لم يتجرّأ من بعده احد ان يخترع مثله.”