أنا و”أيام” وردة الجزائرية
كنت قد أقلعت عن سماع الموسيقى إثر وفاة والدتي الحبيبة رحمها الله لأنني كنت مغيّب عن هذا الوجود وتائه في فلك دنيا حقيرة وقاسية سلبت مني أعز ما املك وتركتني صريع فراشي وذكرياتي ونهر دموعي الذي لم يجف يوماً كما الاطفال على فراق حبيبتي الغالية.. واستمر الحال على هذا المنوال لفترة سنة كاملة.. حتى شاء الله سبحانه وتعالى ان يعيدني لدنيا الوجود من جديد.. وبدأت بالعودة للحياة رويداً رويداً وبعد اصرار الاهل والاصدقاء خلعت اللون الاسود الذي لوّن حياتي وعيناي وليس لباسي فقط وبدأت بالعودة الى مزاولة ما أحب وعدت لسماع الموسيقى التي احب ولعزف ألحان الحزن والآسى على العود الآلة الأحب على قلبي.. وساعدني في العودة لسماع الموسيقى صديقي وحبيبي الغالي المطرب الكبير حمام خيري استاذ القدود الحلبية والموشحات..
وفي أحد الايام استمعت لأغنية مع أحد الاصدقاء على هاتفه النقال تدعى “أيام” وكانت المفاجأة حين علمت أنها للمطربة الكبيرة الراحلة وردة الجزائرية..للأمانة كانت المرة الاولى التي اسمع فيها الاغنية رغم أنها كانت ضمن البومها الاخير التي طرحته قبل وفاتها وقام نجلها رياض باطلاق كليب للأغنية تكريماً لها.. ومنذ ان سمعت الاغنية وشاهدت الكليب الخاص بها دخلت في جوفي ولم تخرج منه حتى اللحظة..
يعجز اللسان عن التعبير إن أراد أن يتحدث عن صرح فني عريق مثل السيدة وردة الجزائرية.. لقد كانت جسراً قوياً للإرتقاء بالفن الاصيل.. لقد غنت وردة للطفولة وللشباب وللحب وللوطن بخامة صوتها النادرة التي تجعلنا نسبح مع صوتها في بحر لانهائي من الشجون.. كانت تشع بقوة وحب الحياة كالغيوم الربيعية التي ترسل للناس أمطارها في حالاتها الحياتية السارة.. وهي أيضاً كالغيوم الشتوية الغزيرة السخية أكثر مما ينبغي في حالاتها الحياتية الحزينة المضطربة المرتبكة…
إن وردة هي في طربها وغنائها وأدائها عبقرية فذة خاصة بها.. ففي أغنياتها نعيش مع المحبة والصفاء والبساطة والعفوية والصدق والأصالة.. وفي شدوها نرى صوت نبض القلوب الإنسانية.. إن السامع المرهف المتذوق لصوت وردة الملائكي يبقى منتشياً محلقاً في عالم جديد..
الاغنية أكثر من رائعة بغنائها وألحانها وكلماتها وكليبها أيضاً.. صوتها الدافئ الحنون لا تسمعه بأذنك ولكنه يتسلل مع موسيقاها الحالمة إلى قلبك لتجد نفسك مدفوعاً بقوة للوقوع في عشقها.. حيث ينساب خليط الذكريات من قلبك رويدا رويداً ليمتزج بألحانها وأغنياتها التي كانت ومازالت تقف صامدة في وجه الزمان لتعلن في شموخ وكبرياء أنها واحدة من أهم علامات الفن في العقود الأخيرة..
رغم شبهها الكبير بأغنية الفنان المعتزل فضل شاكر “وافترقنا” الا أن لها طعم خاص وسحر أخاذ.. يا للروعة فأحس دائماً أنها غنّت لي هذه الأغنية بشكل خاص فهي تمسني في جوفي بشكل رهيب وتأخذني من دنيا الوجود لتحط بي في سماء آخر وكوكب آخر وهي تشدو ” كنا رجعّنا أحباب فارقناهم” وتنهمر الدموع من عيني فجأة وانا اتمنى ان اعيد امي الغالية التي فارقتني وان أتصالح مع اصدقاء على خصام معهم.. أترنح كالسكارى عند سماع هذه المقطوعة لشدة روعة صوتها تحديداً في هذه الجملة وكأنها تتمنى العودة هي أيضاً لدنيا الوجود بعدما فارقة محبيها..
غنت السيدة ام كلثوم وقالت في أغنيتها الشهيرة ( غنيلي شوي شوي ) أنّ المغنى حياة الروح.. نعم المغنى هو حياة وغذاء للروح فهي ليست لغة مشاعر فحسب بل لغة فكر أيضاً.. أي انها لغة كاملة للانسان تتعدى حدود الزمان والمكان.. لغة عالمية يتواصل من خلالها العالم أجمع.. لغة تتناول من خلالها العواطف والحالات النفسية على انواعها والاصوات على اختلافها سواء كانت بالاساليب الشرقية او الغربية.. ومن هنا لا بد أن نقول ان المطربة الراحلة المبدعة وردة الجزائرية شغلت العالم بأسره وعلى مدار عقود من الزمن..
أيام وردة “فتقّت جروحي” كما نقول بالعامية وجروح الكثير من الناس لدى سماعها ورؤية الكليب المؤثر..
شكراً وردة الجزائرية.. لقد كنتِ بعضاً من الجوانب المضيئة في حياتنا.. وأحسسنا بعدما رَحَلتي أن مساحة كبيرة من أرضية الفن الاصيل أمست مجدِبة..