تغطية خاصة بالصور- ليلة طربية بإمتياز للفنان حمام خيري في طرابلس
أحيى الفنان الكبير حمام خيري ليلة الجمعة 8 شباط سهرة طربية بامتياز في معرض رشيد كرامي الدولي في طرابلس بدعوة من لجنة مهرجانات طرابلس الدولية.. اثمل فيها جميع الحضور يصوته الآخاذ وأغنياته الطربية التي انست أهل الفيحاء ولو لبرهة الحالة الامنية المتردية التي تعيشها مدينة العلم والعلماء..
كان الجمهور الطرابلسي المحب للأصالة الطربية والقدود الحلبية على موعد مع سهرة طار فيها حمام الى كوكب آخر وطيّر المستمعين معه.. فقد تمكن بجدارة هائلة وساحرة أن يسلب ألباب مستمعيه وأن يُسكرهم من دون شراب وأن يحلّق بهم إلى آفاق من النادر أن يصلوا إليها مع مطرب آخر.. الرؤوس تتمايل والأيدي ترتطم ببعضها محدثة تصفيقاً امتزج مع صوت الموسيقى الذي انساب مع صوت حمام خيري الذي غنى من أروع ما تختزنه المكتبة الموسيقية العربية..
لقد تهاوت أمامه كل القيود والقواعد والسدود بعد ان وقف على المسرح عشر ساعات متواصلة في مدينة كراكاس في فنزويلا في سهرة راس السنة الماضية حين استبدّ به الطرب كعادته نسي ابن الشهباء حينها الزمن فمزج الليل بالنهار وراح يتمايل على خشبة المسرح بانتشاء صوفيّ أخّاذ.. وكم كنت اتمنى ان تكون ليلة الجمعة كليلة راس السنة وان يقف حمام قلبي لعشر ساعات ايضاً بل ليوم كامل وهو يشدو ويطرب ويأخذنا من دنيا الوجود الى دنيا الطرب والاصالة والسلطنة..
له في قلبي منزلة المحبوب وله في نفوس الفنانين الاشداء منزلة المطرب الحقيقي.. احب الجمال الذي في صوته والعشق الذي في وجهه والوفاء الذي في عينيه.. انه صورة عن المطرب الاصيل الذي تحسبه وكأنه ما أنزل على الارض الى ليكون فنانا.. صوته ينقط رقة وعذوبة وغناء.. انه يسلخ قلبي كلما سمعته يشدو بصوته العذب..
لقد اخترق أبو أحمد بصوته ليلة الجمعة جدار قلوبنا.. فصوته الشرقي الأصيل العذب النابع من القلب يبعث النشوة في النفوس.. إنه يغني بإحساس لم أعهده بمطرب من قبل.. مواقع طربيّة ولونيّة متباينة ومن مقامٍ إلى مقام.. أغنية كاملة تكشف أصالة صوته وعمق معرفته الموسيقية وقدرته الاستثنائية على جذب المستمع إلى صوته ساعات طويلة من دون ملل أو تذمّر..
يبتسم ولا يجتهد إلا للحفاظ على احترامه وعلى احترام يكنّه للمتفرج القابع أمامه يتابعه.. يشعر بمسؤولية ويعطي يوماً بعد يوم ما يرتقي بتلك المسؤولية.. لم يغنِ أغنية إلا وكان صوته يعد بالمزيد.. يشعر المرء بأن ذلك الصوت يملك الاغنية لا بل ويكاد يجد نفسه بها.. لا يشعر بالضعف بل يشعر بصوت يقول باسم عصرك ليكمل مشواراً بدأ في عصر سابق.. يشعر بالتراكم على مستوى السماع وقد أفضى إلى طرب خاص تنتجه حنجرته هو.. تشعر بأمان كلما تسمع صوته وتشعر بالامان ذاته كلما تكلم.. منذ ان بدأ يغني بصوته الجهوري أصغى إليه جمهوره العريض الذي لم يقتصر على اهل طرابلس بل جاوز المدن اللبنانية جمعاء من أجيال مختلفة بحس وإدراك.. اخترق صوته الآذان المتيقّظة المتعطّشة إلى الطرب الأصيل كأنه يُعلن ثورة بيضاء ضد التلوث السمعي الضارب هذه الأيام.. خرجت الحروف من حنجرته واضحة كتغريدة عصفور وجاء أداؤه سليماً بإحساس عال مختلف كل الإختلاف عن أداء مطربين آخر زمن فاستطاع نقل المستمعين الى عالم حالم بأيام الزمن الجميل..
لقد غمرنا حمام خيري وغمر أجيال وأجيال قبلنا بالنشوة والوجد.. ومع كل أغنية غنّاها تعيش قصة حب وشجن ودموع.. بعضها دموع فرح على لقاء الحبيب.. وبعضها دموع القدر على أيام مضت كان فيها الحبيب حبيباً وكانت الدنيا أحلى دنيا.. وبعضها دموع على وطنٍ سلخ منّا.. وبعضها عبرات على عمرٍ مضى.. هو عبقري عبّر أصدق تعبير عن أماني وأحاسيس أبناء أمته فجاءت آثاره الموسيقية تحاكي هياكل وآثار طرابلس وتختصر مدارس في التلحين والغناء.. لقد علمنا هذا الفنان كيف نسمع الموسيقى الراقية وكيف نتذوقها.. لقد ادمنت أذني على صوته وألحانه النابعة من جذور غنية بالاصالة العربية..
هو الجسر الذي وصل فن العصر القديم بالحديث.. أذنه هي سر ثقافته أنها مرهفة جداً وحادة جداً.. لها قدرة عجيبة على تذوق الكلمة الحلوة ذات الإيقاع.. ولها قدرة أعجب على اكتشاف النشاز إذا افتقرت الكلمة إلى الإيقاع والنغم.. إن حيويته وتجوّده وتقدمه كل هذا ناتج عن أنه يعيش عصره وأنه على وعي بكل ما حوله سواء في سوريا أو في البلدان الأخرى.. لقد وظّف الغنى الفني في معظم أعماله وحوى الصفة البارعة والذوق الجميل..
حمام خيري لم يسبق عصره وإنما كان فنان العصر ولكن كان خيال يستحضر المستقبل.. استطاع أن يخلق لنفسه مكانة ممتازة في المجتمع وهو في خطوات حياته الاولى وأن يرتفع بهذه المكانة بفضل فنه لا بفعل شهادة علمية أو ثروة مالية أو حسب ونسب..
كنت اطرب لعذوبة صوته واكتشفت في صوته ما لم يكتشفه البعض.. هو ليس فنان عادي.. ففكره يداني صوته من حيث الجمال والالق والابداع.. الثقافة زينته اذا تكلم والوعي شعاعه اذا حلّل والعلم نوره اذا حكم.. له على المسرح نقلة الغزلان فهو فاتن الغزلان كما يشدو.. صوته يفتن الأسماع ويغزو القلوب وأداؤه رائعاً دون تشنج أو ابتذال.. وتميز بسهولة انتقاله من لون موسيقي إلى آخر..
بلقائك حمام خيري تكتشف إنساناً لا تقل عظمته كإنسان عن عظمته كفنان مبدع في العالم الموسيقي.. هو ليس مطرباً وملحناً فحسب بل كانت له فلسفته في التغير.. هو قيمة فنية مستمرة وأبدية.. تعصّبه للتراث لا يعني مناهضته للأغنية الحديثة أو التجديد في الغناء العربي مع ضرورة الاحتفاظ بهويّة الأغنية العربية عبر الحوار الجادّ بين الأجيال..
صاحب الحنجرة الماسيّة خاض رحلةً شاقّة وطويلة مع غناء القدود الحلبية والموشّحات والأدوار.. لا تكفي عبارة حارس التراث الموسيقي الأصيل في وصف مسيرة حمام خيري الغنائية فصاحب الحنجرة الماسيّة منجم موسيقيّ آسر يحتاج إلى بعثة تنقيب لتصنيف كنوزه النفيسة.. فهو صرف سنوات طويلة على إعادة صوغ التراث الغنائي الحلبي بمنظور جديد.. إنّ ما حققه في غناء القدود الحلبية والموشّحات والأدوار هو ثمرة رحلة طويلة وشاقّة.. هو الصائغ الذي يلمّع الجوهرة ليظهر جمالها بما يتناسب مع الذائقة العصرية ولم يتوقف إلى اليوم عن نبش التراث وتطويره.. فإن من يسمع «هات كأس الراح» مثلاً في تلويناتها الصوتية والطربية سيكتشف عن كثب حجم الإضافات التي حقّقها حمام خيري في تجديد التراث الغنائي الحلبي بحيث يستسيغه مستمع اليوم ويهوى الجلوس ساعات طويلة للإنصات إلى سحره الغنائيّ المتفرّد..
امسية رائعة مع صوت حمام قلبي الذي اكتنز دفئاّ واحساساً وعذوبة امضيتها مساء الجمعة.. قماشة الصوت التي يمتلكها يستطيع من خلالها أداء ألوان مختلفة من الغناء العربي.. كما انه يمتلك القبول والشخصية والحضور والقدرة علي الاختيار.. لم يصعد سلم النجومية بالصدفة أو بضربة حظ أو بأغنية وانتهت كما حدث مع الكثير سواء من جيله أو من الأجيال التي سبقته.. مما لا شك فيه أنه صوت مهم جداً ويمتلك الكثير من المفردات الغنائية التي لا تتوفر عند كثير من نجوم الغناء.. فهو يتمتع بإحساس عالي وصوت قوي وردي اللون.. والسرّ في صوته لا يدفعك للتصفيق فقط بل الى الصمت والتأمل بهذه الموهبة العظيمة..
هذه المدرسة التي تميزت دائماً عن سواها بالعراقة والصرامة في بناء الإيقاع.. ويلحظ في تجربة حمام خيري مهارته في التجوال بين المقامات والارتجال والخروج المدروس على كل القواعد والضوابط التي يتسم بها الطرب الحلبي.. سواء على صعيد نبرة الصوت أم في انتقاء الجملة اللحنية وكذلك في دخوله إلى فضاء الشعر الصوفي.. وإذا كان مواطنه صباح فخري قد صدّر القدود الحلبية إلى العالم العربي فإن حمام خيري مزج ببراعة نادرة بين القدود الحلبية والموشحات الأندلسية باعتماده المدروس لتاريخ الأنغام العربية الأصيلة وتطويرها بارتجالات عصية على التوصيف والمعاينة النقدية الدقيقة من دون أن يخرج على تقاليد المدرسة الحلبية في الغناء..
عندما تستمع لهذا الفنان المتأصل تكتشف على الفور أنك أمام خامة صوتية نادرة وجوهرة مخبوءة ينبغي أن تخرج من محيطها الضيق إلى فضاء العالمية.. يخال المرء أن صوته لا يقل أثراً في حجارة حلب عن هوائها وشمسها ومطرها.. إنه يتفجر بالطاقة عند الغناء يبدو وسط فريقه متوجاً رئيساً.. وعندما يندمج فإن حضوره المادي كله يتحول إلى موسيقى فكأنه جسد مركب من مقامات وليس من أعضاء..
ميزة غناء حمام خيري ليست جمال الصوت فقط بل شحنة الطرب الكبيرة التي يبثها في مستمعه من شدة أصالته وتعمقه في التراث وأصوله والتزامه قواعد الوصلة الغنائية التي تحيي في المستمع كوامنها الخفية من دون أن يدري سر ذلك السحر الذي يأخذه والتي من أهم عناصرها علم الارتجال والتلوين والتصرف عفو الخاطر وفق اللحظة والمشاعر التي تجمع في أوانها العازف والمغني والمستمع في وحدة حال ونشوة اسمها الطرب.. ميزة الارتجال التي تسمى في لغة السميعة بـ “السلطنة” والتي تحتاج إلى قدرات فائقة في التحكم بالصوت.. فقد كان حمام يقدم من خلالها مشهداً بانورامياً غنائياً وملوناً ينتقل فيه من موشح إلى قصيدة أو أغنية ذات خصائص موسيقية مشتركة أي من مقام واحد أو مقامات متقاربة مستعيناً ببعض الآهات والليالي والحركات الصوتية ليعود في نهاية المشهد البانورامي الغنائي إلى نفس الأغنية والطبقة الصوتية اللتين انطلق منهما.. إذ إن الارتجال معروف وشائع في الدور أما في الموشح فهو صعب ونادر جداً لأن الموشح بطبيعته مقيد ومعقد..
هو استطاع بما يملكه من موهبة وروحانيات وخيال وخبرة وحسن أداء وصوت أن يشق طريقاً مباشراً وسريعاً من قلبه إلى حلقه مستغنياً بذلك عن الطرق الإجرائية الموسيقية.. ومعبراً في صوته عن كل ما يتحلى به من صفات الكرم والعفوية والشفافية والطيبة واللطف ودماثة الروح..
حمام خيري آخر شهود عصر الطرب الأول الذين نشأ وجدانهم الموسيقي حين كانت عناصر تكوين الثقافة الموسيقية أقرب إلى النقاء والأصل والشخصية العربية الحضارية الواضحة.. لم يكن واحداً من الذين أتونا من عصر جميل سالف ليسمعنا ما يفوتنا سماعه اليوم في وسائل العصر الملتبسة فقط.. بل كان شاهداً على أن ما في غددنا وتكويننا العضوي لا يمكن تغييره مهما تباعد الزمن وأنّى مضى بنا عصر التعتيم على شخصيتنا الفنية والثقافية..
شكراً لاستاذ حمام خيري أقولها من أعماق قلبي الذي طمر جمهوره في طرابلس بصوته في هذا السهرة الطربية.. طرابلس الفيحاء احتوى ليلها سهرة سجد الشيطان لصوت آدمي فيها..
شاهدوا الصور