تغطية خاصة بالصور- حمام حلب يطير ويصدح في سماء بيت الدين
حبي للموسيقى العربية متأصل.. ولا توجد أنغام في موسيقى الدنيا يمكنها أن تحرك اوتار قلبي مثل الأنغام العربية الطربية ولي في هذا حديث يطول.. وما إن علمت بإحيائه لامسية طربية ضمن فعاليات مهرجانات بيت الدين حتى سارعت لحجز مقعد حتى أفوز بساعات طرب وسلطنة ووصل..
تعلقت بصوته منذ ان عرفته قبل عشرة سنوات كاملة.. فقد بهرني صوت يحمل بكل اللحظات العتيقة والآنية خلاصة حضارة ورصيد حقب أموية وعباسية وعثمانية ومشرقية بالمعنى الأفقي الفسيح, جميل, عريض, صاف, جدول من النقاء فكأنه الضوء يغني ويطرب, أريج, رقراق, سهولة ويسر في الانتقال من مقام إلى مقام.. من درجة إلى درجة وحضور خاص على المسرح..
إنه حمام خيري.. هو مطرب سوري متالق ينتمي الى تيار غنائي يعد امتداداً اصيلاً للطرب الجميل الذي يمثله جيل العمالقة الكبار أم كلثوم وعبد الوهاب وسلامة حجازي وغيرهم فصوته يطرب له الصغار قبل الكبار.. ويعتبر افضل مطرب سوري من الجيل الجديد.. يبدع باداء القدود الحلبية الموشحات والاغاني الطربية على انواعها ودائماً يضيف للاغنية بعض من الاضافات الطربية الجديدة..
من حلب المعروفة بحبها للطرب الأصيل وشغفها بالموسيقى العريقة.. يتقدم صوت الفنان حمام خيري كواحد من أجمل الأصوات في تاريخ هذه المدينة وتاريخ سورية عموماً.. ولد ونشأ في مدينة حلب وتعلم ان يحمل هوية هذا الوطن ظاهراً ومضموناً بمشاعره وافكاره واحاسيسه ومن الطبيعي ان يكون انتماؤه لهذا التراث فهذا واجب ووفاء من الانسان…كما انه يؤدي التراث الغنائي العربي بشكل عام وليس التراث السوري او المصري او الاندلسي.. عمل على نشر تراثنا العربي من خلال الاغنية الطربية والموشح ومازال يحمل لواء إحيائه.. ورغم ازدحام ساحة الغناء العربي بالنشاز القبيح واقبال قطاع واسع من الجماهير على استهلاك هذا النشاز ظل حمام خيري مخلصاً لفنه وطريقه الذي اختاره منذ البداية ولم يضل صوته طريقه الواضح الى قلوب مستمعيه..
من صلب حلب اتى ليخط اسمه في ارجائها والغناء في حلب مسؤولية كبيرة يعجز عنها الكثير.. فحلب منبع الطرب التي انجبت اسماء من العيار الثقيل المدوي مثل: عمر البطش ، بكري الكردي ، محمد خيري ، فؤاد خانطوماني ، صبري مدلل ، عبد الرؤوف حلاق ، أديب الدايخ ، حسن الحفار ، صباح فخري ، عمر سرميني والكثير الكثير..
فقد اثبتت حلب الحبيبة انها ما زالت على العهد وها هو حمام ثمرة عهدها الطربي يغني ويطرب ويجعل القدود تتمايل والنفوس تنتشي على صدح حنجرة الفنان السوري الشاب الذي حلق بمسامع جمهوره الى موشحات الأندلس وربوع الشام بأغنيات تعبقت بأصالة المقامات الشرقية والمواويل وآهات العشاق..
فكان قصر بيت الدين ليلة الخميس 12 تموز على موعد مع سهرة طربية بامتياز طار بها حمام حلب الشهباء ليزين سماء القصر وهويغني ويحيي الوصل بعد أن خصصت مهرجانات بيت الدين الدولية ليلة الخميس للموشحات والقدود الحلبية والمواويل والقصائد الغزلية مع المطرب السوري المتحدر من المدرسة الموسيقية والغنائية الحلبية العريقة..
إطلالة الفنان حمام خيري في بيت الدين فاقت في أهميتها التوقعات.. فالجمهور الذي لم يكن في غالبيته يعرف هذا الفنان الحلبي ولم يسمع قدوده ومواويله وموشحاته جاء للاكتشاف وطمعا في سماع غناء عربي طربي وسط غابة الموسيقى الغربية التي يضج ويعج بها صيف لبنان ومهرجاناته.. وإذا كان الحفل قد بدأ هادئا وبمجموعة أغنيات طربية فإن هذه المجموعات أظهرت قدرات خيري الفائقة في أداء تقني رفيع وصحيح لا يشذ..
وقال خيري وهو يحيي جمهوره انه جاء ليغني لبيت الدين وأهل الدين ونفرح للعزة وللكرامة متمنياً السلام والمحبة لسوريا وأمل خيري أن تكون موشحاته رسالة محبة من حلب الشهباء، تدخل الفرحة إلى قلب الجمهور..
فعرض حمام خيري قدراته على التطريب فكان يغير في طبقات صوته الدافىء والمطواع من أعلى إلى أسفل وبالعكس وكلما مال الى طبقة منخفضة ازدادت رخامة حنجرته وعذوبتها فتناوب في اداء الادوار والقدود والموشحات الطربية الاصيلة التي قد يصعب فهمها إلا على السمّيعة المتأصلين بالطرب العربي مثل : ” يا غزال الرمل ” “يا مانت واحشني ” ” عذبوني ما استطعتم” ” يا ذا القوام السمهري” ثم غنى موشحاً جديداً خصّ به لبنان “بين اللمى واللميا ذبت عشقا لبنانيا”
وخصص الجزء الأخير من الحفل لريبرتوار حلبي يعرفه الحاضرون ويحفظونه عن ظهر قلب، مما جعلهم يرددون معه، ويطربون وينتشون ويرقصون، وكأنما الليل سيطول بهم كما تقول إحدى أغنياته من دون أن ينشق له فجر “يا طيرا طيري يا حمامة” التي قام بتجديدها وأضاف لها رونقاً طربياً رائعاً بطريقته الخاصة و”تفتا هندي” و”مالك يا حلوة مالك” و”يا فاتن الغزلان”و “يا بهجة الروح”و “العزوبية” وغيرها من الموشحات والقدود الحلبية التي تستند على ألحان تتأرجح بين الشعبي والكلاسيكي..
حياة حمام خيري البسيطة كانت تتحول في أمسية غنائه ليلة الخميس إلى معادلة مركبة يشكلها تلاعبه الساحر بالجمل الموسيقية لتظهر وكأنها وضعت له أو أنه هو الذي ابتدعها، فقد كانت غريزته الفنية هي التي تحكم مسيرته فيبدو في كل أداء له وكأنه يقدم على الغناء لأول مرة في حياته، وتلك هي الصفة التي ستحسب له على مرّ الأيام. لقد تميّز الفنان الكبير حمام خيري بهذا الفن وأبدع فيه على مدى سنين تجربته الفنية وأثرى ساحة الغناء العربي الأصيل، وأسس مملكةً تربع على عرشها من خلال الروائع التي غناها من موشحات وقدود وقصائد لأكبر الشعراء وأهمهم، وقد تفاعل الجمهور مع غنائه تفاعلاً كبيراً حيث أشعل بصوته وحنجرته الماسية حماس جمهور المسرح..
قد فتن حمام خيري أجيالاً من الكبار والشباب أجمعت على الإعجاب به وحبه كذلك.. ولم يقتصر الإعجاب والحب على أهل مدينته فقد كانت رقعة المنتشين بأدائه وحضوره الذي لم يعرف يوماً شيئاً من التنميق، وأصبح ظهوره بين جمهور لم يعرفه من قبل إيذاناً بتعلق ذلك الجمهور بقدرة ذلك الشاب على اصطياد سمع الناس وأرواحهم. كان أداؤه أشبه بتفجر ينبوع ماء في أرض قاحلة لا يلبث فيضه أن يشكل عند مستمعيه ولاء جديداً للتراث الذي كاد أن يضيع في زحمة الزيف، المدهش لحمام في إذكاء النشوة قد ربط الزمن القديم بالقائم وساهم في التأكيد على جوهر الروح الذي لن يقف في وجه المعاصرة، وقد كان المطرب الشاب ممثلاً للتواصل بين القديم والحديث. وأسلوبه المتفرد في الأداء بطعم النغمات الحلبية يظهر أيضاً في تناوله الجديد لقصائد وأغان قدمها أعلام كبار كأم كلثوم ومحمد عبد الوهاب، حتى لتشعر وهو يعرك اللحن ويعيد خلقه من جديد بأن اللحن ما خلق إلا هكذا..
نقل حمام خيري التراث الحلبي الغنائي في امسية الخميس ليس فقط من خلال صوته الآخاذ بل من خلال حضوره القوي على المسرح، إذ ما إن يتماهى مع كلمات الأغنية حتى يبدأ الرقص بحركات مدروسة تشبه الدوران الصوفي. وإذا بالنشوة تستبد بالحضور في طقس غنائيّ فريد، فتصير عبارة «ليلي ليلي ياليل» التي يكرّرها عشرات المرات من مواقع طربيّة ولونيّة متباينة، ومن مقامٍ إلى مقام، أغنيةً كاملة، تكشف أصالة صوته وعمق معرفته الموسيقية وقدرته الاستثنائية على جذب المستمع إلى صوته ساعات طويلة، من دون ملل أو تذمّر في عصر صارت فيه الأغنية لا تتجاوز الدقائق..
شكراً استاذ حمام .. اقولها من أعماق قلبي على هذه السهرة التي تفوق الوصف وعلى حبك للبنان وسوريا ولحلب بالذات ووفقك الله لتأدية رسالتك الإنسانية الخلاقة..