الإكتئاب: مرض العصر
هل مرت عليك أوقات صعبة عانيت خلالها الحزن والألم وخيبات الأمل والبكاء والتشاؤم والإضطراب في النوم؟ هل شعرت يوماً ان لحظات السعادة أقل بكثير من الحزن وأن الحياة اصبحت بلا جدوى فأصابك اليأس من المستقبل ولم يعد بإمكانك التحمل أكثر؟
الاكتئاب صار مرض العصر، ويُطلق عليه العلماء depression، وهو من أكثر الإضطرابات النفسيّة والمشكلات الإنفعاليّة إنتشاراً. يُشكل المصابون به أعلى نسبة في عدد الزوار إلى العيادات والمصحات النفسيّة. ويُقدر عدد المصابين حول العالم بنحو مئتي مليون إنسان. وهذا العدد الرسمي يمثل الذين استدعت حالتهم طلب العون من الاختصاصيين، لكنه لا يمثل سوى القليل. فهناك الكثير من المكتئبين يعانون بصمت وألم ولا يجرؤون على طلب العون، أو يترددون، ومنهم من يرفضون الاستعانة باختصاصيّ، أو لا يعون انهم مصابون بالاكتئاب (العديد من الناس يصابون بالأعراض لكنهم لا يعلمون انهم مكتئبون لجهلهم تشخيصها). كما أن كثرة المصابين بالإكتئاب تؤثر سلباً على القريبين منهم وقد يسبب لهم شيئاً من العدوى.
والإكتئاب أنواع ودرجات. فالعاديون قد يتعرضون لصدمات اكتئابيّة بعد حدث معين أو تجربة مؤلمة كوفاة عزيز، أو فقدان العمل أو فشل علاقة. إن هذا النوع العادي من الإكتئاب يحدث لفترة قصيرة (لا تمتد لأكثر من شهر برأي الباحثين) وغالباً ما يكون مرتبطاً بالموقف الذي أثاره فيزول مع انتهاء مفاعيل الصدمة.
وهناك نوع آخر ذو طابع مرضي وعادةً ما يكون أكثر حدة وأشد خطراً. ويستمر لفترة قد تطول لسنوات. وهذ النوع غالباً ما يعيق الفرد عن أداء عمله والقيام بنشاطاته ويشل قدرته على التفكير السليم؛ وبالتالي يصبح المصاب خطراً على نفسه، ما قد يؤدي بصاحبه في بعض الأحيان إلى الإنتحار.
ان الإصابة بالإكتئاب تكون نتيجة تراكم عدد من العوامل تتجمع لتحدث لاحقاً الإصابة بالإكتئاب. فما هي أهم الأسباب المؤديّة لذلك؟
استناداً الى أحدث الدراسات تعود أكثر الأسباب وأهمها إلى: وفاة شريك الحياة (الزوج/الزوجة) – الطلاق – الهجرة – وفاة أحد أفراد الأسرة – أزمة عائلية – المرض – أزمة مالية – حادث – فقدان العمل – الضوضاء – الزواج – الحمل والإنجاب – الذاكرة السيئة – الوحدة – مشاكل جنسية – التغيير في نمط الحياة – الاهمال (المسنين حين يوضعون في مراكز للعناية امثال دور العجزة).
لقد انتشر الإكتئاب في المجتمعات كافة وعلى جميع المستويات، فلم يسلم منه الرجال ولا النساء، ولا المسنون ولا الاطفال أيضاً. لكن كيف يدرك الانسان ويعي انه مصاب بالإكتئاب؟ فما هي أعراضه؟
يرى Aaron Beck الأستاذ في جامعة بنسلفانيا المشهور بأبحاثه حول موضوع الإكتئاب إن أهم هذه الأعراض هي: الحزن – التشاؤم – الإحساس بالفشل – الشعور بالندم والذنب – عدم الرضى أو السخط الدائم – كراهية النفس – انتقاد النفس بشكل دائم – محاولة الإنتحار أو التفكير فيه – البكاء – الإنزعاج الدائم – فقدان الإهتمام بأي نشاط إجتماعي – التردد – اضطرابات في النوم (قلة النوم أو الإفراط فيه) – الشعور بالعجز عن القدرة بالقيام بالعمل – التعب والإرهاق – الاضطراب في الأكل (فقدان الشهية – أو الإفراط في تناول الطعام) – انخفاض الوزن – فقدان الرغبة الجنسية.
فلا بد إذاً للفرد، إذا ما شعر أو شك بوجود أعراضٍ، أن يبادر إلى السعي لوضع حد للمرض من بدايته وذلك بأن يلجأ إلى طبيبٍ اختصاصي.
قد تختلف الأعراض من شخص إلى آخر. وقد تتطور خلال أسابيع أو شهور كما انها قد تصيب الانسان فجأةً اثر حادث أو فجيعة كما انها قد تتطور لتزداد شدة أو ليخف وقعها وأثرها بإعتبار الظروف والأوضاع الشخصيّة والعقليّة والثقافيّة والدينيّة والفلسفيّة لكل فرد.
العلاج الكيميائي
لقد اتجه العلماء في السنوات الأخيرة إلى تكثيف البحث عن دور ما لما يُسمى بالعامل الكيميائي الحيوي. وذلك بإعتماد المقارنة بين المكتئب وغير المكتئب. وقد بيّنت تلك الدراسات إن بعض جوانب الإكتئاب ربما يكون نتيجة للإختلال في توازن البوتاسيوم والصوديوم عند المكتئبين. وهذا من شأنه أن يحدث إختلال مباشر في إمكانيات الإحساس بالراحة، وهذا بدوره يؤثر على إثارة الأعصاب. فبحسب (Davison & Neale, 1974) لقد تبين ان مستوى كثافة الصوديوم في داخل الخلايا العصبيّة مرتفعة عند المصابين وقد انخفضت لتصبح بالمستوى العادي بعد إخضاعهم للعلاج.
إن الإكتئاب الحاد (الذي قد يؤدي أحياناً للإنتحار) يتطلب تعاطي بعض العقاقير المضادة للإكتئاب لفترة يحددها الطبيب حسب ظروف المريض. ومن أهم هذه العقاقير “tricyclic” و”Lithium” و”Fluoxetine” و”Prozac” ويوجد أيضاً الكثير غيرها وتؤدي إلى تأثيرات إيجابيّة بمعظمها وربما لا تصلح للجميع بنفس القدر، فهناك أدوية يستجيب لها بعض الأشخاص بقدر أكبر من غيرها.
توارث الإكتئاب
أثبتت الدراسات ان عدد الأفراد الذين يعانون من الإكتئاب في عائلة المريض يزداد بنسبة 3 مرات أكثر من العائلة العاديّة وهذا ما يؤكد وجود العامل الورائي. ولكن لم يتم إكتشاف أي مورث “جين” معين ذات علاقة بالإكتئاب لغايّة الآن.
الدراسة الوطنيّة لـ (إدراك)…
وقد أثبتت الدراسة الوطنيّة التي أجراها “مركز الأبحاث وتطوير العلاج التطبيقي” (إدراك) عن الصحة النفسيّة أن غالبيّة اللبنانيين المصابين بالاكتئاب “لا يعطون سرّهم إلى الطبيب النفسي”. وتبيّن الدراسة أنّ أكثر من 70 بالمئة من المصابين بالاكتئاب لم يستشيروا أي طبيب. كذلك بيّنت الدراسة أن ما بين 30 إلى 50 بالمئة من المصابين بإضطرابات نفسيّة أو عقليّة يعانون عجزاً حاداً في حياتهم الاجتماعيّة والعمليّة اليوميّة. ووجدت الدراسة أن “نسباً مرتفعة من اللبنانيين البالغين يعانون، نتيجة للأمراض النفسيّة أو العقليّة، إضطرابات حادة في علاقاتهم الخاصة وفي قدرتهم على العمل وفي حياتهم المنزليّة”. وقد خلصت الدراسة إلى أن “اللبنانيين الذين يعانون أمراضاً نفسية بحاجة إلى المزيد من التثقيف بشأن الأمراض النفسية أو العقلية لمساعدتهم على الإقرار بوجود حلول علمية للتخفيف من معاناتهم”. وأشارت إلى أن “من شأن ذلك الإسهام في الحدّ من تأثير هذه الاضطرابات على الحياة المهنية والعلاقات الشخصية والحياة الاجتماعية والأسرية”. (جريدة الأخبار اللبنانية في 23 تموز 2009، العدد 876، ص 9).
بالرغم من الإحباطات والضغوط والمشاكل التي تحيط بالإنسان كل يوم فأن مواجهة هذه الأوضاع يمكن ان تتم بمحاولة فهم حقيقة التناقضات التي تدور في داخله، وإبراز الإيجابيات بدلاً من السلبيات ما قد يؤدي إلى التغلب على التشاؤم واليأس. فالفرد يتحمل مسؤوليّة كبرى في المحافظة على التوازن النفسي في مواجهة مصاعب الحياة من خلال تحصين نفسه بقدر معقول من الراحة النفسيّة والجسديّة والإجتماعيّة وذلك بالرضى عن نفسه وتقبل ذاته ومن حوله والحياة ومواجهتها بمواقفها المختلفة حزينةً كانت ام سعيدة. ومن المفيد جداً له أن لا يتردد في طلب المساعدة التي يحتاجها من ذوي الاختصاص لتخفيف معاناته او وضع حد لها.