رأي خاص – سيّداتي سادتي العرض يبدأ بعد 5 دقائق… هبة طوجي تُسطِّر التاريخ

عندما تكون رحبانيّ الهوى، (وهنا لا أتحدّث عمّن يعشق الأغنيات والأصوات والأعمال الرحبانية بل عن أسلوب حياة) تتفرّد بعقلك وقلبك ونبضك ومتنفسك وحريّتك وفكرك وإحساسك وتفاعلك مع مَن وما حولك، فيرتقي عقلك إلى مستوى أهوائك، كما يقول جبران، وحينئذ ترى ما يطربك. حينئذ فقط، تبتاع بطاقتك لتدخل بها إلى رهبة أرجل البيانو وآلات عظماء الموسيقى، فتنتظر أن يبدأووا أمسيتهم لتقع في كرسيك، فيرتفع رأسك قليلاً، تحنيه يميناً أو يساراً، تعتريك ابتسامة هادئة تكحّلها الغرابة، وفي داخلك، تعلم أنّه في زاوية ما، في مكان ما حيث أنت، هناك قوة عليا. تشعر بها، تعتريك، هي روحيّة بعض الشيء… هي شيء من الآلهة!

لطالما كانت هكذا حالتي في حضرة الرحابنة، ولكن للهوى درجات ما بلغتُ الثمالة منها حتّى أتى أسامة الرحباني بهبة طوجي وأنتج ألبومها الأوّل. فالروح البشرية تتوق إلى الكمال دون أن تشعر بتكامله أحياناً، لتحبّ دون أن تدري وتجد متنفساً لمكنوناتها في أجمل الأشياء وهو الفن. هذا ما تفعله بك موهبة حادّة كموهبة هبة، موهبة عشقتُها منذ أغنيتها الأولى حتّى ألبومها الأخير الذي كتبتُ نقداً فيه لم أشأ نشره لغاية اللحظة متحجّجاً بظرف هنا وآخر هناك، وأنا أعلم أن ما نصّيتُه قليل على عمل ما زلت أسمع فيه كل يوم تلوينة جديدة ونغم غير اعتيادي وكلمة ليست من لغة كل يوم. لم أملّ من سماعه ولم أنته من قراءته بعد. هو ما أذاب “هبة” في شعر غدي وثقل موسيقى أسامة إلى حيث يكفل تساؤلك عن كيف لعقول بشرية أن تنتج ما تسمعه أذناك من إبداع، كيف لها أن تخاطبك بهذه الجماليّة في وقت اعتدْتَ فيه على وحشيّة مفرطة ينتجها العالم يومياً…

ومن كثر ما استمعتُ للتفاصيل الصغيرة والكبيرة (وما زلت) وواكبت أسامة وهبة حتى آخر عمل صُوِّر للجيش، خلتني ذاهباً إلى البترون على دراية بما سأشاهد، خلتني أعرف ما ستضفيه هبة طوجي على مهرجان بترون الدّولي الذي انتصر بأسامة الرحباني هذا العام، ولكن مهلاً، عذراً، لم أعرف أنّ الليلة ستكون حد الذهول…

عذراً أسامة، خلتني أعرفك وأقدّر ما تقدّمه وأعي حجم إبداعك.
عذراً فأنا لم أعرف أنّك أكثر من ذلك بكثير.
عذراً لم أعرف سعة فكرك وقدرتك على إنتاج ليلة ضخمة ومتقنة في سابقة من نوعها كتلك.
عذراً فأنا لم أشاهد يوماً مسرحة للموسيقى والكلام كما حدث. لم نكن أمام مسرحيّة غنائيّة، ولم نحضر حفلاً، ولم نشاهد عرضاً في برودواي، شاهدناك تصنع التاريخ. أبدعت كموسيقي ومفكّر ومنتج في طرح النجومية بقالب حقيقي وجديد. في البترون وحدها أصبحت أسامة الرحباني دون منصور، وكم كان محبّباً ومشبعاً حضوره تلك الليلة في “يا حبيبي”، ولكنّك إنتصرت لنفسك لكيانك لوجودك ووثّقت نهجك المختلف، نهج أسامة الرحباني بعيداً عن الأخوين. لم نشبع من الدقائق المعدودة التي عرفناك فيها على ما أنت عليه. نريد المزيد من جنونك “المسرحي” وبعضاً أكبر من داخلك.

ستفيض الجرائد والمواقع وصفاً للتقنيات وحجم العمل والجهد الذي وُضع في ليلة البترون. ستذخر المقالات في مسرحةٍ، وحدها ظاهرة مثل هبة طوجي قادرة على إحداثها على مدار ساعتين من الوقت لم تَعرف فيهما الكلل أو التعب أو الضياع بين ألف شخصية وشخصية. سيتحدثون ويخبرون عن تنقلها بين الحب والوطن والثورة والسلام والفرح والحزن وكيف كانت تزأر حنجرتها قوة وعزيمة لتعود وتنهزم إلى استسلام خاطف الأنفاس. سيكتبون عن نضج صوتها وتفرّده وطوعيته وطرق توظيفه وأنواع الغناء كافة التي أدّتها، عن لفظها للفرنسية، وإشباعها لثقافة الأداء الإنكليزي، كل هذا في مشهديّة تبدأ بالديكور والرقصات والأزياء والمشاهد المصورة وتنتهي في وجه على تجانس مع كل عضلة فيه قادر على تصوير ما أراد. جماليّة المقالات التي تُكتب مع تطوّر التكنولوجيا أنّها تُحفظ للتاريخ، وليحفظ من يقرأ أنّه سيأتي يوماً تصفّق فيه الجماهير لذيل ردائها.. فهي شيء آخر، ليست بجوليا ولا بماجدة أو كارول أو نجوى أو إليسا أو نانسي أو كل ما في الفن من كبير وصغير. هي بعيدة. هي من يحدد المعنى الدقيق للـMegastar دون سواها.

عذراً هبة…
عذراً عرفناك فنانة رائعة فقط.
عذراً عرفناك حنجرة لا تتكرر فقط.
أنت أكثر من ذلك بكثير. ما تجمعينه من موهبة غير واقعي. لا ينتمي إلى هذا العالم…

هناك في البترون لم أجلس وأقف وأصفّق كسابق حفلاتك. كنتُ تائهاً ضائعاً حائراً حتى ضاق بي المكان. مغفور هو خطأ ذاك الصوت الذي صدح وسط الضجيج: “سيّداتي سادتي… العرض يبدأ بعد 5 دقائق”. كاد الأجدر به أن ينبّهنا قائلاً: “سيّداتي سادتي… هبة طوجي تُسطَّر التاريخ بعد 5 دقائق”!

فأنا اليوم “طوجيُّ” الهوى أكثر منه رحبانياً، ولكن ما أدراني وأنتما تماماً كجبران والنبي في “كل ما منرجع عهالدني”: “واحد متل الزمان والتاني متل الحياة من جديد بيخلق وبيرجع، إنتِ هوّ وهوّ إنتِ بالزمان”…

لقراءة المزيد: تغطية خاصة بالصور- هبة طوجي عروس البترون والفن تجلّت في ليلة حلم صيفية وموقع بصراحة ينقل لكم الكواليس‎

مقالات متعلقة

Back to top button

Adblock Detected

Please disable ads blocker to access bisara7a.com