رأي خاص- المستقبل والجديد تنضمان الى المنار في الفرز الطائفي وسقط قناع كذبة التعايش عن شاشات التلفزة
لبنان بلد التعايش ، لبنان صلة الوصل بين الشرق والغرب ، لبنان التعددية ، لبنان الرسالة … مواصفات وتعابير عدة أطلقت على دولة “لبنان الكبير” ، فتغنى به الشعراء والمفكرين المحليين والدوليين ، إلا أن هذه الطروحات لا تتعدى المنحى النظري ولم تطبق على أرض الواقع إلا نادرا.
فتاريخ لبنان القديم والحديث كفيل بإظهار واقعه الحقيقي ، فمنذ سنة 1860 وليومنا هذا ، ما زال التاريخ يدون تواريخ الحروب وأسبابها، ومهما تعددت الأسباب المباشرة أو اختلفت ، إلا أن السبب غير المباشر هو ذاته وهو التناحر الطائفي . ورغم مرور فترات من “السلم المصطنع” ، إلا أن الشعور الطائفي يقوى ويتعزز ، والخوف من الآخر يزداد مع تنامي هاجس الخوف من الذوبان .
عند ذكر كلمة الطائفة أو الطائفية ، يرتعب المتلقي ، وتنهال الاتهامات بالتعصب والتطرف على كل من يتجرأ أن يقول الحقيقة كما هي علنا وبصوت عالٍ ، فالجميع يّدعي الانفتاح على الآخر وبغض الطائفية ظاهريا وفي الخفاء يمارس ما هو أسوء منها.
التطرف هو تكفير الآخر ونبذه أو محاولة إخضاعه لمعاييرنا وإجباره على العيش وفق النمط والوجه الذي يناسبنا ، أما المجاهرة بالحقيقة فهي قوة وواقعية ، فإن اختبأنا وراء أصبعنا ولم نحدد سبب المشكلة لن تحل المشكلة يوما ، بل ستفرز نتائج أسوأ وسنظل نهرب من المواجهة لحين القضاء على أي فرصة حل موجودة.
عند انشاء دولة لبنان الكبير بحدوده المعترف بها حاليا بطلب من المسيحيين ورفض المسلمين قال الصحافي الراحل جورج نقاش :”سلبيتان لا تصنعان أمة ” . فالطائفة لا تعني فقط “ممارسة دينية” ، بل إنها وفي لبنان تحديدا ترتبط بثقافة كل مجتمع بمعناها الواسع . ولبنان لم يرتق ليصبح دولة ولا حتى “وطن” ، فشكل الدولة غير ملائم لمكوناتها ما يجعلها دائما خائفة على وجودها ومتوجسة من خطر الزوال ، ما أدى إلى تحكم بضعة رجالات كل بطائفته بحجة حمايتها وتأمين حقوقها ، وبالتالي احتكار المناصب العامة الذي “فرمل” نمو الدولة ، وعزز نمو الدويلات المتناقضة.
لبنان لم يكن يوما وطنا لأبنائه ، وذلك لأن أبنائه لم يعرفوا يوما معنى المواطنية ، فلبنان ليس أمة ولا حتى مكون من مجتمع واحد متجانس ، بل يتكون من عدة مجتمعات ، والاختلافات والفروقات بين هذه المجتمعات متعددة ، إن من ناحية الولاء أو الارتباط الاقليمي والدولي ، إن من ناحية دور لبنان ، أو من ناحية وجهه وثقافته ، وصولا للسياسات الاجتماعية التعليمية والاقتصادية .
التعايش لا يعني الاندماج والذوبان بالآخر ، التعايش لا يعني الاختلاط الالزامي العشوائي ، التعايش لا يعني ممارسة الطائفة لتقاليد وعادات الطائفة الأخرى . هذا التعايش ليس إلا كذبة وتمثيلية ، فهذا التعايش المصطنع ينفجر عند كل مطب مولدا المصائب والكوارث.
التعايش الحقيقي والسليم هو مجاهرة كل طائفة بما تريد ، واعتراف كل طائفة بحق الآخر بالعيش كما يريد ، وبعد الاعتراف المتبادل يجرى دراسة للشكل المناسب للدولة المنشودة ولأمل وطن . فعن أي تعايش نتكلم أعن الحرب الأهلية ووقوف شريحة من اللبنانيين مع الغريب بوجه شريحة لبنانية أخرى ؟ أعن تعديل دستوري ينهي حكم “طائفة” ؟ أعن احتلال لمدة خمسة عشر عاما بموافقة ورضى شريحة من اللبنانيين ؟ أعن مناطق مفرزة طائفيا ؟ أعن استحواذ بعض الطوائف على السلاح غير الشرعي ؟ أعن التهديدات والاعتداءات الطائفية المستمرة ؟ أعن المعارك والجولات الأخيرة بين طرابلس ، صيدا والبقاع ؟ أعن قتال بعض اللبنانيين على أرض الغير كواجب ديني طائفي لا يمت للمواطنية اللبنانية بأي صلة ؟
أو عن التعايش الكاذب الذي تنقله وسائل الاعلام بغش وحسب مصالحها ؟
فسقط القناع عن بعضها البارحة ، ففي حين كافة الوسائل اللبنانية والمحطات المتلفزة تحديدا تعتمد سياسة معينة لبرامجها وتنقل عبر شاشاتها طيلة شهر رمضان برامج تتوافق مع متطلبات الصائم المسلم ، حيث يتشارك اللبنانيون جميعا مسلمين ومسيحيين بمشاهدة هذه البرامج وعيش الأجواء الرمضانية ، بان الفرز الطائفي بين المحطات واضحا البارحة ، فلم تلتزم محطات المستقبل والجديد بمواكبة الصلوات التي تقام نهار “الجمعة العظيمة” عند كافة الطوائف المسيحية طوال اليوم. فهذا النهار المقدس عند المسيحيين حيث يقام في كل كنيسة “زياح” ، و”درب الصليب” ، والذي كان موحدا السنة عند كافة الطوائف المسيحية ، لم تنقله شاشات التلفزة التي تتوجه لطوائف أخرى ، ومنها محطة المنار التي لا تنقل أبدا أي حدث ديني مسيحي في أي يوم من أيام السنة.
إن كانت أسباب هذه الشاشات بأن مشاهديها لا يهمهم هذه المناسبات الدينية ، إذا إنه الاعتراف الصريح بالفرز بين المحطات على أساس طائفي وبأن سياستها وبرامجها موجهة فقط لفئة واحدة و أن “الشعوب اللبنانية” لا تتابع إلا محطة تنتمي إليها وتشبهها . وبالتالي لا يعقل أن تستمر الجهات التي تتبع لها هذه المحطات باتحافنا بشعارات الانفتاح والتعايش والقيم المشتركة . فهذه اللامبالاة واللامواكبة لمناسبات المسيحيين الدينية ، أثارت انزعاجهم وامتعاضهم من “عدم المعاملة بالمثل” ، وبالأخص أنه إذا حصل في إحدى المرات سهواً بأن نقلت إحدى المحطات التلفزيونية لأي مشهد من مسلسل أو أغنية ما لا تتناسب مع برامج شهر رمضان ، تعلو الأصوات المنتقدة والمتهمة والمهددة ، وعند كل تفصيل يُتهم المسيحيين بالانعزالية وبالتعصب ، فيطبق المثل اللبناني “الصيت لالنا والفعل لغيرنا”.
لبنان المشروع وطن ليس إلا مجموعة ثقافات متناقضة ، حيث تسيطر الازدواجية و”الكيل بمكيالين” . فكفى منافقة ، فإما أن تعترف كل طائفة وكل الوسائل الثقافية والاعلامية التابعة لها برغبتها بحصر توجهها واهتماماتها بطائفتها حصرا، وبالتالي هذا يعني تلقائيا انتفاء حقها بمطالبة بقية المحطات باحترام مناسبات وعادات وتوجهات جمهورها . وإما الاتفاق على أن تكون كافة الوسائل الاعلامية موجهة للبنانيين كافة دون أي تمييز وأن تواكب مناسبات جميع الطوائف وأن تعرض برامج تليق بكل مناسبة دينية أيا تكن جهتها ، فيكون على الأقل “التعايش المصطنع” عادلا ومتساويا بين الجميع .
إن المسيحي هو “على صورة الله ومثاله” ، الله الذي قدم ابنه فداء عن خطايا البشرية ، والذي علم تابعيه أن “يديروا الخد الأيمن” ، والمسيحي هو الذي تمسك بلبنان ، الذي يلتزم بالدولة ، الذي لم يقاتل خارجا تحت أي مسمى ويعرض وطنه للخطر ، الذي يفتح مناطقه ومدارسه وجامعاته للجميع ، الذي يحترم حق الآخر وحرية الآخر ، سيغفر اليوم مرة أخرى وسيسامح ويطلب من الرب أن يصفح عنهم “لأنهم لا يدرون ماذا يفعلون” ، ولكن لكل شيء حدود والتسامح والغفران لا يعنيان الضعف والانكسار ، والانفتاح لا يعني التبعية ، والتعالي عن الرد لا يعني الذل ، وعند الضرورة سيدمر الهيكل على رؤوس تجاره .