وردة… ستكون السماء أكثر حناناً في استقبالها
يمكن لي أن أقول إن ثمة جزءا من حياة يتراجع فجأة إلى الوراء، يحاول أن يغيب ويختفي، على الرغم من أني أعرف حقا انه باق ولا سبيل له للاندثار مطلقا. جزء حضرت فيه وردة الجزائرية بكلّ قامتها الوارفة، وبكلّ صداقتها المدهشة، وبكلّ إنسانيتها التي لا تعرفها غالبية الذين استمعوا إليها والذين كانوا لا يعرفون سوى هذا الصوت الذي سحرهم والذي تربوا عليه وأخذهم إلى حالات شتى، حالات كانت أغانيها تعبر عمّا يريدونه من هذه الحياة. إذ ما من أغنية من أغانيها إلا وتحيلنا على ذكرى خاصة، عرفناها، عشناها، ووجدنا لها صيغة أخرى عبر صوت وردة. كلّ أغنية من أغانيها لها أقاصيص لا تنتهي: الأولى قصة الأغنية الأصلية عند الفنانة، وما يبقى تأويلات لا تنتهي لدى ملايين المستمعين، حيث كل يرتّب علاقته بها وفق ما يشتهي ويرغب.
بدون شك، أفقد «ماديا» هذا الجزء، لكني أعوّل على ما تبقى من ذكريات، كي أعيد ترتيب السياق المفقود، ربما لأننا لسنا في النهاية، سوى ذكرى مرورنا على الأرض. وثمة العديد من الذكريات والأحاديث واللحظات التي تنبثق فجأة، بالأحرى من تلك التي لا تغيب. سأحاول مثلا أن أتخطى ذكرى استماعي للمرة الأولى إلى صوتها عبر الراديو، إذ ثمة عديدون يشاركونني في هذه اللحظة، ولو عدت إلى المرة الأولى التي حضرت لها حفلا حيّا (مباشرا)، لقلت أيضا إن كثيرين شعروا بما شعرت به من رجفة، ومن مهابة، ومن فرح أيضا. إذ غالبا ما تثير حفلاتها هذا الفرح العارم في قلوب مستمعيها. لكني، مهما حاولت، فلن أستطيع نسيان أول مرة جاءني صوتها عبر الهاتف.
كان ذلك من سنوات، أصبحت طويلة اليوم. الصدفة وحدها لعبت ذاك الدور. شاهدت حفلا لها، وبسبب عملي الصحافي، كان عليّ أن أقوم بالتغطية. كتبت مقالة، ضمنتها كلّ حبي لهذا الصوت ولها. لأتفاجأ بُعيد صدورها بساعات بمكالمة هاتفية بصوت (عرفت في ما بعد أنه صوت نجاة، أمينة سرّها الخاصة) «إن السيدة وردة تريد محادثتك» (لتشكرني على ما كتبت). لا أعرف كيف جاءتني الشجاعة لأطلب منها، بصوتي المرتجف (وأنا أتحدث مع وردة) إن كان يمكن لي مقابلتها. قلت لها إني أحب أن أتعرف إليها شخصيا، إن لم يكن لديها أيّ مانع. قالت بسرعة هل يناسبك نهار السبت، بعد الظهر، في الفندق الفلاني (حيث كانت تقيم). موعد أكثر من مناسب. أول ما فكرت فيه: كيف يمكن لي أن أفوّت هذه الفرصة.
فعلا هي فرصة، إذ كانت فاتحة لقاءات استمرت طيلة السنوات الأخيرة. كانت أيضا فرصة لأحاديث هاتفية ما بين بيروت ومصر والجزائر. وبين اللقاء الأول والأخير، بقيت تلك الوردة الرقيقة، المتواضعة بشكل مدهش، الفائضة بالحب، التي تبتعد كلّ البعد عن لعب دور النجمة، لتظهر ذلك الوجه الإنساني الرهيف الذي يجتاحك كلك. ولتكتشف وجها آخر، لا تعرفه، أو بالأحرى لا يهتم به أحد، إذ ينشغلون فقط بالفنانة، أو لنقل بالوجه العام الذي يظهر لهم.
لقاء أول، أظن، فعلا، أني لم أعرف كيف أتحدث فيه، إذ ثمة «ضغوط» خفيّة كانت تمنعني من أن أكون على سجيتي. كانت هالة ما تشدني إلى «الكنبة» التي كنت أجلس عليها، وبالكاد كان صوتي يخرج من فمي. ضحكت وقالت «ما لَك إيه يا بني». سؤال جعلني أبتسم قليلا، مثلما جعلني أكثر قابلية للشعور بالراحة. وكأني تناسيت كلّ شيء، ليأخذ الحديث معها مسارب أخرى. ما زلت اذكر فعلا تلك التفاصيل: تحدثت عن حفلها، عن الغناء، لكن تحدثت أيضا عن السينما، لأكتشف مدى معرفتها بالأفلام الغربية التي تتابعها والتي تعرف أسماء مخرجيها وممثليها. ثقافة سينمائية حقيقية، تصيبك بالدهشة، إذ يظن المرء أن غالبية الفنانين يأتون من «فراغ». ولم يكن فراغا، بالطبع، بل امرأة معجونة بالحب للكثير من الأشياء، لعائلتها، لدورها كأمّ، لدورها كجدة تلاعب حفيدها، لعشقها دخول المطبخ وتحضير المأكل.
لقاءات
بالطبع لم أكتشف ذلك في اللقاء الأول، بل هي اكتشافات أتت تباعا، عند كلّ لقاء. وفي كل لقاء كانت تصمم على أن تدعوني إلى الغداء أو العشاء. بداية كنت أخجل وأهرب، وأتذرع بعشرات الحجج، لكنها نجحت في النهاية بإقناعي، أو لأقل تخليت عن هذا الخجل المستمر أمامها، لأشعر بنفسي كأني فرد من العائلة. هذا هو الإحساس الحقيقي، حين تعرفت إلى ابنها رياض وعائلته للمرة الأولى، إذ ما إن شاهدنا بعضنا حتى تعانقنا كأننا نعاود حياة قديمة جمعتنا. لم تكن قادرة فقط على جمع «الجمهور» حول أغانيها، بل أيضا عرفت كيف تجمع بين علاقات إنسانية لأشخاص وقعوا في فيئها الوارف.
فيء لن يغادر بسهولة، ولن يختفي بالطبع، يكفي أن أعود بالذاكرة قليلا، بالرغم من أن التفاصيل الكثيرة لا تُختصر. أذكر مثلا ذاك الاتصال الليلي، حين قالت لي نجاة إن السيدة تريد أن تحدثني، استغربت، ليأتي صوتها الساحر، وبعد السلام والتحيات والأشواق، سألتني «هل تابعت ما يكتب عني في الصحافة التونسية؟». أجبت بأني على غير دراية بهذا، وسألتها عمّا يجري، أجابت «رفضت أن أغني في قصر بن علي، فشنت الصحافة التونسية عليّ حربا». كانت يومها قد أحيت حفلا في قرطاج. قالت إنها غنّت للشعب التونسي فقط، ولا تريد أن تغني للحاكم. أزعجها الأمر وبخاصة أنها كانت خارجة يومها من وضع صحيّ دقيق.
من الصعب عليّ الآن، أن أتذكر كلّ هذه الاتصالات. لكن الأخير أتاني منها منذ فترة، قالت لي: لم تقل لي أي شيء عن «ألبومي الجديد» (الألبوم الأخير الصادر عن «روتانا»، والذي عرف مشاكل عديدة، وتأخر صدوره سنوات)». لم أعرف بماذا أجيب. لم أكن قد استمعت إليه بعد. اضطررت إلى الكذب لأقول: كنت مسافرا، وعدت إلى بيروت منذ أيام، وسأستمع إليه غدا. أعرف كم كان يعنيها هذا «السي دي». تأخر لأن الشركة المنتجة رفضت أن تصدره لوجود أغنيتين من تأليف الفنان اللبناني علي الزين وتلحينه. ليست مشكلة فنية أبدا. بل كان الفنان اللبناني اعترض على روتانا وعلى الاتفاق الذي أبرمته مع إحدى الشركات الأجنبية، ما كان يعني أنه يمكن لإسرائيل أن تأخذ الألحان وتنشرها عندها. وهذا ما أثار غضب الفنان الذي صرح بمعارضته لهذا الأمر. وبما أن وردة كانت على اقتناع بجودة هاتين الأغنيتين، تضامنت مع الفنان اللبناني وأصرت على إما أن يصدر «السي دي» كاملا وإما ألا يصدر.
وصدر بعد لقائي الأخير بها. لقاء، من أشهر قليلة، دعت إليه في أحد المطاعم. كان هناك مساعدوها، ابنها وعائلته، علي الزين وزوجته. وحين اتصلت بي لتدعوني، قالت: ممنوع أن تهرب. ستأتي وإلا سأزعل حقا. قلت «لن آتي فقط، بل سأصطحب معي صديقة جزائرية، لن أقول إنها تحفظ أغانيك، بل حلمها أن تلتقي بك، إن كان هذا ممكنا». رحبت بحرارة، «تعرف يا إسكندر بإمكانك أن تطلب أي شيء». وأضافت «ومن هي ابنة بلادي هذه؟»، أجبت: «ستتعرفين إليها»، وضحكنا… ما زالت هذه الضحكة ترن في أذني لغاية الآن. وأصرت يومها على أن أجلس قربها على رأس الطاولة. شعرت بالإرباك في اللحظة الأولى، لكن بعد دقائق، اختفى كل شيء. كان بإمكانها، أن تزيل كلّ الارتباك بفضل هذا الحب الذي تزرعه أينما حلت. أعتقد أن السموات، قد تصبح أكثر حنانا حين تستقبلها هذه الأيام.
أردت أن أكتب عن رحيل وردة. بالتأكيد لم أكن لأضيف شيئا الى كل الذي سيكتب والى كل الذي سيقال. ما إن جلست لأكتب، حتى انسابت الذكريات. ربما لأننا لسنا سوى مجموعة من الذكريات في نهاية الأمر. من الصعب أن تغادر حين تحفر خطوطها في هذه الحيوات التي تغادرنا…
كتب المقال إسكندر حبش، جريدة السفير اللبنانية