خاص- بعد أسبوع على رحيلها، نتذكّر العظيمة سعاد محمد ومن بلاد العمّ سام سلامٌ إلى روحك الطاهرة سلام
قررت خلال اقامتي في الولايات المتحدة الامريكية الابتعاد تماماً عن الاخبار المحلية والعالمية والانقطاع التام عما يدور في شتى أنحاء المعمورة حتى لا أنشغل عن رحلة الاستجمام والراحة النفسية التي سافرت لأجلها ، وحصرت اتصالي بشبكة الانترنت بالتواصل مع الاهل والاصدقاء.. وصحوت من عدة أيام على نبأ بثه صديقي في وجهي كما تبث الافعى سمّها في العروق.. وهو وفاة المطربة الكبيرة سعاد محمد..!!
لم أجد وصفاً يتناسب والحزن العميق الذي اعتراني و أنا أقرأ نبأ وفاة المطربة الکبيرة سعاد محمد ، بل أنني صعقت لمجرد تصوري بعالم يخلو من ذلك الصوت العذب الحنون الرؤوم المملوء عاطفة و إحساساً و تدّفقاً ، فقد وجدت وکأن الدنيا قد افتقدت ثمة شيء مهم و حيوي جداً ، إفتقاد أبديّ ليس بالامکان مطلقاً عودته مرة أخرى ولذلك شعرت بحزن ثقيل فادح ليس من السهل مواساته ابداً خاصة وأنني أحب الراحلة كثيراً ومغرم بصوتها وأصالتها ، وكنت أعتبرها الوريثة الشرعية والوحيدة لعرش سيدة الغناء العربي وسيدة حبي ” أم كلثوم”.. وما زاد من حزني وألمي أنني وللمصادفة الغريبة كنت أستمع قبل عدة أيام لأغنيتها المفضلة عندي “مظلومة يا ناس” في السيارة رفقة شقيقتي في شوارع أبلتون – الولايات المتحدة الامريكية ، وطربت تماماً لدي شدوها المقطع الاخير المحبب لدي ” عايشة بنعيم في عيون الناس” وصدرت آآآآآآه من أعماق قلبي طرباً وسلطنة لصوت خاتمة المطربات..
إنه مصاب جلل، ألم يقل الله عز وجل «فأصابتكم مصيبة الموت» نعم ماتت سعاد كما هو سبيل كل حي ، ولكن من الأحياء من يموت ويبقى ذكره حياً في كل زاوية.. في كل مجلس.. في كل اجتماع !! وأحسب أن سعاداً منهم..
وإن كان حظّ محمد عاثراً في حياتها الخاصة، فإن الوضع لم يختلف في الوسط الفني إذ لم يأخذ صوتها حقه ، ولم ينل التقدير الذي يستحق ، ان صوتها يتمتع بمواصفات نادرة وأنها تستحق من الشهرة أضعاف ما نالته وأن صوتها مطواع إلى درجة غريبة في جماله ومساحته . وأنا ألوم الإعلام اللبناني والعربي لعدم تقديره لهذا الصوت بل تجاهله واهتم بأصوات تقل مستوى عنه وبفنانين يتقنون فن الرقص والاستعراض في عالم التلفزيون والمسرح.
من هنا، يُعَدّ انهماكها بحياتها العائليّة السبب الفعلي لعدم نيلها الشهرة التي تستحق، وعدم إيجادها المكانة المناسبة بين زميلاتها اللواتي تركن لبنان واتّجهن إلى القاهرة، وبنين شهرتهن فيها. وأبرز هؤلاء صباح، ونور الهدى، ونجاح سلام..
هي مطربة عبقرية الصوت ، سعاد محمد تملك صوتا ليس فيه أي عيب على الإطلاق فهو كامل كمالاً غريبا .فصوتها جميل جداً كخامة ، ومطواع إلى درجة غريبة فلا شيء لا تستطيع المطربة سعاد محمد أن تقوله أو تغنيه . والعرب الصوتية الشرقية كاملة بدون أي محدودية وحتى في مساحة الصوت التي تفوق الديوانين بكثير .
صوتها فيه طرب غريب فهو ينقلك من أول آه إلى أقصى حالات الطرب ويبذل نفسه للمستمع في شكله الخارجي القوي وفي حياته الداخلية التي تدور خلف الكلمات واللحن. السيدة التي عرفت الغرام والزيجات المتعددة والولادات، عرفت كيف تُحمّل صوتها كل تلك المهالك اللذيذة ، كما حمّلته نوع الظلم غير المبرر الذي لحق بها فنياً من قبلة رجائها مصر التي عاشت فيها فترة طويلة. «مظلومة يا ناس» بصمتها الشاكية الأولى كانت تستدر دمع السامعات أكثر مما تستدر حال طربهن ، أو فهمهن تمكّنها في الأداء الشاكي استعدادها الشعوري للوقوع في الغرام أسبغ على صوتها الرائع في جذره مزيداً من الجمال الملتاع ..
مع رحيل سعاد محمد، يفقد الوسط الفني صوتاً آخر من أصوات الزمن الجميل الذي لم يبق على الساحة الغنائية سوى أسماء قليلة من الفنانين الذين طبعوا عقوداً من الغناء في العالم العربي مثل وردة الجزائرية، وشادية.. وإن كانت سعاد محمد التي عاصرت ليلى مراد، وفايزة أحمد، ونجاة الصغيرة، وشادية، وفريد الأطرش، وعبد الحليم حافظ قد ابتعدت طوعاً عن الأضواء قبل دخول الألفية الثالثة، فإن السبب هو رغبتها في الحفاظ على مستوى معيّن من الأغاني التي اشتهرت بها، فيما اختارت فنانات أخريات ركوب موجة الفن الحديث للحفاظ على حضورهن في الساحة..
رحلت ملكة الغناء ورحل معها التاج الذي لن يرتفع على هالة من بعدها . لقد رحلت سعاد محمد الجسد وبقي صوتها ذلك الصوت الدافئ الشجي الذي لا يزال يدوي في أذن المستمع العربي ، وهذا إن دلّ على شيء فإنما يدلّ على أن حنجرة سعاد محمد الذهبية لم تغب عن شمس الفن والغناء العربي ، فما زال جمهورها هو نفسه عندما كانت حية وبعد رحيلها ما زال المستمع الذواق يتناول وجبته الغنائية في كل زمان ومكان..