خاص- نزار قباني، شكراً لأنك علمتنا كيف نكتب الشعر وكيف نحب
كثيرة هي المقالات التي كتبت عن فارس الشعراء العرب نزار قباني بعد رحيله، ومهما كتبنا عنه فلن نوفيه حقه، فنزار كان مدرسة للشعر ومحيطا من الصعب الغوص فيه.. برحيله بعد مسيرة نصف قرن بصحبة الشعر وعطاء وصل خمساً وثلاثين مجموعة شعرية إلى جانب كم كبير من الكتب النثرية ما الذي يمكن لنا فعله لنكون بمستوى الوفاء لذكرى وفاة الشاعر العربي الكبير نزار قباني الذي غادرنا في عام 1998 عن عمر ناهز 75 عاماً .
هو من كبار المجدّدين في الأدب العربي المعاصر. تغزل بالمرأة، وأمسك بيدها إلى عالم الإنطلاق والتّحرر، حتى غدا شاعر المرأة من دون منازع. يحمل قلبه بين يديه، ويقدمه خبزًا يوميًا على مذبح الحب بصورٍ فيها الكثير من الجرأة التي لم يعتد مثلها شعر الغزل قبل ذلك..
فقد العرب أسطورة من الصعب بل من المستحيل أن يجود التاريخ بمثلها.. في الثلاثين من نيسان الحالي تمر علينا الذكرى الثالثة عشرة لرحيل “أبو توفيق” الشاعر الذي تحول من شاعر يكتب شعر الحب والحنين لشاعر يكتب بالسكين.
ملأ نزار الدنيا وشغل الناس ولم تزل أشعاره تنتشر في كل مكان من ثقافتنا العربية تنقل من جيل إلى جيل.. لقد أثار من الضجيج والحب والإعجاب ما لم يثره الآخرون.. وأعطى للشعر العربي من قصائد الحب والثورة ما جعل منه أيقونة شعرية لايمكن لأي متذوق للشعر إلا أن يتوقف عندها..
ان اختصار العطاء الذي جاد به قباني والتاريخ الذي كتب مراحله شعريا ونقدياً باحثا عن نفسه ليساعدنا في لقاء أنفسنا بتسميات وألقاب كشاعر المرأة أو شاعر الحب فقط دون غيره فيه من الظلم الكثير ..إضافة إلى تعاملنا مع ذكرى وفاته بمبدأ نكران الجميل فيه أيضاً من الظلم لاسيما أن تراثه الماثل بين أيدينا في مرحلة من مراحله يجسد شخصية مناضل كبير لم يقتصر دوره على الشعر فقط بل تعداه إلى أبعد من ذلك .
أين هي مشكلتنا الحقيقية يا ترى ؟ هل هي قلة الوفاء أم قلة الإمكانات ؟ أظن أن الكثيرين ينحون معي صوب قلة الوفاء إذ ليس جديدا علينا فعل الظلم لمن أترفوا حياتنا بحضور يشبه ماء النهر الذي لا يتكرر مرتين.. إنها لمفارقة عجيبة تلك التي تواجه إنساناً أكرمه الله بذاكرة تقدر من مروا على دروبها كيف له أن يحبس الدمعة في عينيه قهراً وصدمة وهو يشاهد البرامج التلفزيونية ذات الكلفة الخيالية تبث لتستقطب أميراً للشعر أو شاعراً للمليون وبعض من أمراء الشعر الحقيقيين الذين ساهموا في صناعة هذا الأمير الشاعري أو المليوني الشاغل للفضائيات ووسائل الإعلام تمر ذكراه مرور الكرام دون إشارة أو حتى تذكير بالمناسبة..
لو وقف المرء شاعراً كان أم قارئاً بنوعيه منتجاً وعادياً أمام نفسه متسائلاً لماذا ننكر جميل من كتبوا حياتنا ورسموا صورها بدموع عيونهم ومنفاهم واغترابهم ؟ ترى هل صحيح أن هذه الميزانية أو تلك تعاني عجزاً بعد صرفها الأموال الطائلة في التحضير والإعداد ، هل تعاني عجزاً أمام رصد مبلغ من مخصصاتها لإدارة مهرجان في ذكرى رحيل من أسس لمدرسة في الشعر العربي تتنافس النصوص بناء على قواعدها ليكرم هذا أو ذاك بجائزتها ؟ لماذا كل هذا الصمت حيال أولئك الكبار الذين وسمهم الزمن بالغربة والاغتراب والعذاب في حياتهم ونأتي لنضيف لرصيد مأساتهم عذاب روحهم بعد رحيلهم ؟ وربما ما يجرح أكثر عجزنا أمام معادلة لا يستطيع فك شيفرتها او حلها احد في هذا العالم والتي تعصى ربما على فيثاغورث نفسه ، هل من المعقول أن يسمع القاصي والداني بزفاف إحدى الفنانات العربيات ((المبدعات)) عبر الصحف والفضائيات العربية وقوفا على كلفته ومن حضره ومن تكرم بالتغريد خلاله ناهيك عن الضجة الكبرى التي أحدثتها حالة التأهب القصوى وإعلان الطوارئ بمناسبة زفاف الفنانة العربية تلك عبر وسائل الإعلام التي لم تتذكر بعد أن فكت حالة تأهبها على امتداد وطننا الغالي ذكرى وفاة شاعر تربى على إحساسه الملايين على امتداد وطننا الكبير ، شاعر أغنى ذاكرة الفن العربي بقصائده وكلماته التي خلدها عظماء فننا العربي مثال السيدة أم كلثوم وفيروز و ونجاة الصغيرة وفايزة أحمد وعبد الحليم وغيرهم وصولا إلى وقتنا الحاضر مع ماجدة الرمي وكاظم الساهر وغيره وربما كان لذكراه أن تكون حاضرة لو قدمت الفنانة ((المبدعة)) تلك بصوتها بعضا من كلماته ، من يدري؟
ليست هذه جريمتنا الاولى في حق الفكر والإبداع أو في حق عمر من العطاء لحالمين مروا في حياتنا او قبل ان نكون ولكن وجع المناسبة والدمعة التي نبكيها في ذكرى رحيل الشاعر العربي نزار قباني تستدعي ربما الإشارة إلى إشكالية التلقي للنص الإبداعي وآلية التعامل معه من قبل مدعي خروجه عن منطق الحياء وتحجيم عطائه بجسد المرأة والدخول من خلاله إلى عالم الخلود الشعري ، هل من المعقول أن نتعاطى مع منجرٍ أدبي أنسن مدناً وأطلقها للحياة بعد ان حطمتها عصي الفتن والدمار على أيدي من يدفعون نصف عمرهم وكل ما يملكون لنبقى داخل علبة الكبريت جهلا وانفصاماً ومرضاً ، أليست تلك المدن وأهل تلك المدن الذين دأب قباني ومنذ عام النكسة 1967 على إيصال صوتهم وألمهم للعالم ؟ أليسوا محور النضال العربي ماضياً ولحد هذا اليوم ضد من يحاولون تهويدنا ونسف عقيدتنا ووجودنا من النكبة الكبرى إلى جملة الحوادث التي كادت تطيح او أطاحت بانتمائنا وهويتنا في مرحلة مظلمة من تاريخنا المعاصر من بكاء بيروت وأنينها إلى معاناة القدس وأبنائها إلى كل لحظة أناب الأمة فيها حدث عارض أو وجع مزمن (( يا وطني الحزين ..حولتني في لحظة من شاعرٍ يكتب شعر الحب والحنين لشاعرٍ يكتب بالسكين )) أليست هذه العبارات الشعرية دليلاً واضحاً على نبل إحساسه وسمو مقصده الإبداعي ، ولو وافقنا من قال بهدمه للقيم الدينية واعتباره شاعراً ماجناً ، ألا تكفي صحوة الموت هذه لو جاز لنا ان نسميها هكذا لترد الاعتبار إلى كيانه كإنسان تحرق قلبه الحال التي وصلنا إليها علماً أن ما كتبه واعتبر خروجاً فاضحاً وصارخاً عن الموروث أتى أُكله في زمنه وما زلنا نقطف ثماره حاضراً وسيبقى لأجيال أخرى وأخرى .
نزار قباني ذاك الشاعر الذي رفض قولبة الحاضر وثار عليه فأنتج مستقبلا سليم البنية الجسدية ومعافى الروح ،حقه علينا ان نكون اوفياء لذكراه .. لانه كان وفيا معنا في حياته وحتى بعد رحيله لاننا لم نزل نعشق على طريقته ونرفض قهرنا الاجتماعي أيضاً على طريقته والتي مهما شابها من اشكاليات متعددة ومهما اجتهد النقاد سعيا وراء اطفاء جذوتها ستبقى فاطمئن يا سيدي حيث انت فأمثالك لا يغيبون وكل من وقف ضدك كان ضد انتمائنا لأنفسنا وكشفنا لحقائق الزيف والنفاق الاجتماعي والتعليب والتدجين .
لم تكتمل مهمة انتشال الشعر العربي من عصور الانحطاط التي بدأها أحمد شوقي و البارودي إلا في مرحلة تالية من القرن العشرين ومن عباءة شاب دمشقي صغير قالت له سمراء ذات يوم بعضا من أسرارها فقرر أن يبوح بها للعالم فأتى ديون “قالت لي السمراء” ليحيك بعده خيوط التحول المقصود من الشعر العامودي إلى التفعيلة ولكن دون أن يتخلى عن أصالة الشعر. وفي وقتها، لم يتفق النقّاد بعد على هوية هذا المطل على عالم الشعر العربي الحديث، وكان نزار قباني خارج نطاق كل ما تعلق بهذه الإشكالية .إلا أن صاحب” طفولة نهد” و” الرسم بالكلمات”، وبرأي الكثيرين كان الأكثر تأثيراً وشعبية بين شعراء جيله المعاصرين، ومازالت كلماته العاشقة والمتوحشة والمجنونة تسافر بين النجوم وبين البشر.
للوطن والمدن هامش كبير في شعر نزار قباني، ،فدمشق هي المحبوبة الأولى والأخيرة، كتب لها اجمل اللوحات الشعرية العذبة، من قصيدة -موال دمشقي- كما كانت لفسطين مكانة كبيرة في قلب شاعرنا العظيم فكتب فيها الكثير، ومن أشهر قصائده في هذا المجال قصيدة “أطفال الحجارة”أثناء الإنتفاضة الفلسطينية الأولى الباسلة، أما القصيدة الثانية فهي بعنوان”شعراء الأرض المحتلة”وفي جزء منها يقول:”محمود درويش..سلاما/توفيق الزياد..سلاما/يا فدوى الطوقان..سلاما/يا من تبرون على الأضلاع الأقلام/نتعلم منكم، كيف نفجر في الكلمات الألغام”. وحتى في قصيدته الرائعة والتي كتبها في رثاء زوجته “بلقيس” والتي حملت اسمها، لم ينس أن يتطرق إلى فلسطين..
سيبقى نزار قباني هامة عالية بين الشعراء وفيلسوفا سطر فلسفته في كلمات معبرة وصادقة ومعطرة بالرقة ، وانامل المراة كان نزار سياسيا جبارا بقامته وهامته وفكره عاليا ولم يخضع ولم يتنازل ، كان جبلا شامخا وكان شلالا هادرا وكان سهلا منبسطا وكان نهرا جاريا ، كان الخير والمحبة وكان الرحمة والحب والدفء والحنان ، كان الرقة والدبلوماسية والشفافية ، كان الشعر والالهام كان نزار هو النزر النادر في كوكبة الشعراء.
لقد قضى نزار أكثر من ثلثي حياته في كتابة الشعر..تنقل بين الحب والكره، قدّس المرأة وجعل منها حلقة الوصل بين الأرض والسماء، حارب عن القصيدة وحارب عن الأنثى وعن الحضارة، ولعل الإيقاعات النزارية على مقام العشق كانت منذ انطلاقتها الأولى ظاهرةً متميزة ولها حضورها على الساحة العربية محكيةً أو مغناة، ولكن مجموعة من الأسئلة تطرح نفسها اليوم وبقوةأين نزار قباني بعد مرور هذه الفترة على رحيله؟! وهل ما زال صاحب “قصيدة الحزن” أو مدرسة الحب كما أسماها كاظم الساهر- يتمتع بشعبية الأمس؟! وهل الأزمة التي يواجهها الشعر اليوم مردها الشاعر أم الجمهور؟!
لقد كتب عن شعر نزار قباني الكثير وحظي حتى الآن بدراسات كثيرة متنوعة التناول بينما ظل نثره البديع خارج الاهتمام ولم يحظ في حدود ما أعلم بدراسة تذكر مع أنه جدير بالبحث شأن شعره تماماً لا لانه ينطلق من الينابيع نفسها التي انطلق منها شعره ويطرح كثيراً من القضايا التي طرحتها قصائده وحسب، وانما لكونه نثراً فانه يأتي اكثر وضوحاً وقدرة على تحديد الكثير من مواقف الشاعر الكبير واهتماماته العامة ومعاركه المباشرة، وكما ان لشعر نزار خصوصيته التي تميزه عن سائر شعراء عصره فان لنثره الخصوصية نفسها ايضاً.
لقد اسس نزار قباني اسلوباً في الكتابة النثرية هي الى الشعر اقرب منها الي النثر ويمكن لنا ان نقول ان بعض كتاباته النثرية تفوق في شاعريتها بعض قصائده السياسية خاصة حين يهبط التعبير الشعري الى درجة الكلام العادي بينما يرتفع نبض اللغة في بعض الكتابات النثرية الى مناخ الشعر.
وليس نزار قباني الوحيد في هذا المنحى، شعراء آخرون يشاركونه في ذلك الا انه يظل اكثرهم حرصاً على ان يكتب المقالة النثرية تحت شروط تشبه الى حد ما شروط كتابة القصيدة. كما انه يحتشد لكتابة المقال احتشاده لكتابة القصيدة تماماً فتأتي نابضة بالصور، مترعة باعمق المشاعر..
غاب نزار قباني منهياً نيسان بالحزن، ولكنه ترك الكثير والكثير من الفرح خلفه..ربما صنع نزار ربيعاً لدمشق لم يصنعه أحد قبله، وهكذا ستكتشف دمشق أن الوقت سيطول كثيراً قبل أن يأتي على هذه المدينة شاعر مثله.. وكان الرحيل في ليلة ظلماء ، وكان لموته وقع الصاعقة التي ضربت الشرق من أقصاه إلى أقصاه ، سيبقى ابو توفيق الذي صنع كل الجمال الشعري خالداَ وجميلاً في عمرنا ، واليوم في الذكرى الثالثة عشر على رحيل شاعر العروبة أقدم هذه المقالة هدية إلى روح نزار قباني الذي لا تزال روحه ترفرف على الدنيا..