رأي: زمن الفساد… من أجل حفنة دولارات
لم يكن يخطر في بال الممثل الأميركي الشهير كلينت إستوود، وهو يؤدي دوره في الفيلم الذي أحرز شهرة واسعة أوائل السبعينات من القرن الماضي والذي حمل عنوان “من أجل حفنة من الدولارات”. أن هذا الدور سوف يتحول الى مدرسة ومثالٍ يحتذى في أدبيات السلطة والادارة في شتى دول العالم الثالث ومنها لبنان. ولعله لم يدرك أن هذا الدور سوف يستهوي العديد من رجال السلطة والاداريين والمسؤولين عندنا من أهل الحل والربط في مختلف مفاصل القرار. الذين أمضوا العمر في إجراء التمارين، وشحذ الهمم، والتمسح بالاعتاب، ولثم الحوافر، ليتسنى لهم الانتماء الى جوقة الشرف الانتهازية في هذا الزمن الرديء، الذي شاء أن يمنحهم السلطة على رقاب البلاد والعباد.
فمن أجل حفنة من الدولارات لايستغرب المرء أن يرى سياسياً في هذا البلد تدفعه أريحيته ليأخذ محازبيه الى جهنم، وهو يعدهم بالجنة. عندما تتفتق قريحته على خطاب طائفي معسول الوعود ناري اللهجة، تهلع له القلوب، وتشمئز من رائحته انوف الموتى.
ومن أجل حفنة من الدولارات يمكن للمرء أن يُنحّي إيمانه ومعتقداته وموقعه الديني والدنيوي جانباً، ويفرد عباءته لترعى الخطيئة وتمنحها فرصة التملص من العقاب، ناثراً صلوات البراءة فوق رماد الشرف.
ومن أجل حفنة من الدولارات يسقط قوس المحكمة على عقبيه. فينقلب الميزان، ويتخلى العدل عن أساسه، ليكون للملك أساساً شريداً تائهاً، يسعى الى إعتقال القوانين ورجمها، باعتبارها محرضاً على الخطيئة.
ومن أجل حفنة من الدولارات لايستغرب المرء أن يعرض الوطن في سوق النخاسة، كما تعرض العاهرات، وتقرع الكوؤس فوق جماجم الضحايا كما تقرع الاجراس في ليلة الميلاد، ويُحجر على الاطفال حتى لا يأتوا الى المخلص وتتحقق المعجزة.
من أجل حفنة من الدولارات يتبارى المسؤولون في تعرية الوطن من حقيقته الجامعة ليفصحوا عن حقيقتهم هم ويسلبون المواطنة عفتها وطهارتها. ليمنحوا هذا الوطن الجريح هويه قاتلة. تسوق الناس الى المقابر في احتفالات موسمية، وحروب أهلية مجلجلة، كل عقدين من الزمن. عنوانها حماية مصالح الطوائف في دولة تدفع بالمواطن قسراً الى حظيرة الطائفة، فتقيم لها الصوامع والقداديس وتتلو الصلوات وهي تذرف دموع التماسيح على وحدة الارض والبشر والمؤسسات المنخورة والمنهوبة بأيدي الزبانية والخلص من الغيارى والمخلصين، لصالح الدساكر والاحزاب والقوى الفاسدة. هكذا تصبح الخدمات حكراً على رموز الطوائف وباباً للموارد المنهوبة من الكهرباء الى الاشغال والتعهدات الى الصحة إلى الطرقات هكذا نؤسس لطبقية جديدة لها حدين: الناهب والمنهوب، ولينتحر كارل ماركس وتنطح الحكومة رأسها بالحائط لتأمين موارد جديدة، وليتحول الدين العام الى مصيدة لقوت المواطن وجهده لاهم في ذلك.
ومن أجل حفنة من الدولارات يتحول التعليم الى أفيون وتتحول المؤسسات الجامعية الى مداجن لايخرج منها إلا ضعاف التفكير، مستلبي الارادة والعقل،عاثري الحظ. تفتح أمامهم أبواب الهجرة ويغلق باب الوطن الكبير، ليصير سجناً لأصحاب الضمائر، الذين جانبوا الضلالة بالهدى واختاروا شمس الحقيقة على نور الافكار الهدامة وعفن التاريخ وجلباب نمط من الاصولية السوداء.
ومن أجل حفنة من الدولارات يقتل الاخ أخاه تيمناً بقابيل وتبركاً به. ويخطف رجل الدين نفسه من ضؤ المحراب ليرتمي بين براثن الفساد والمال الحرام سعيداً بما إقترفت يداه. ومن أجل حفنة من الدولارات يزرع المتوهمون المتفجرات على أعتابهم ثم يستنكرون ويتوعدون ويصرخون كما صرخ الراعي الكذاب وهم يحلمون بسبع ٍمن الفضة تأتيهم ثمناً لموقفهم الناشز اسوة بيوضاس.
ومن أجل حفنة من الدولارات تتحول القضية الى شهيد يأبى الراحة، ويرفض شهادة الزور في حق ما يؤمن به. ويُفتح البازار لستين سنة خلت فتُضيِّع فلسطين بوصلة العودة لتتيه في أزقة ودساكر الوطن العربي الممزق وعلى المنابر الدولية الصماء، كاليتيم على مائدة اللئام.
ومن أجل حفنة من الدولارات تساق العروبة الى المعتقل فتهان وتستهان ويستباح شرفها على كل الجبهات. لتعود مهيضة الجناح، كسيرة النفس خاوية، إلا من أصالتها واخلاص فقرائها وحاضنيها في زمن فاسد لا ينتج إلا الفساد ولا يستمرئه إلا الفاسدون.
وبعد ألا يستحق كلينت إستتود من هؤلاء بعض التكريم والاعتراف بالفضل ؟