رأي خاص- مسلسل شتّي يا بيروت… فخامة الجاذبية
باتريسيا هاشم: “فخامة الجاذبية” بهذه العبارة يمكننا تلخيص حلقات مسلسل “شتّي يا بيروت” حتى الآن. هذا المسلسل الذي انصفته اغنية المسلسل او “التيتر” الذي كتبه الشاعر المبدع مازن ضاهر فوصف “الوجع” بكل صوره الحقيقية التي تتجسّد في هذا المسلسل الخارج من معاناة الخسارة كلٌّ على مقاسِه. فبعضهم خسر أحبّة وآخرون خسروا انسانيتهم والبعض الآخر خسر كل أمله بالنجاة او خسروا احلامهم حتى ان الخسارة امتدّت الى الشرف الذي يخسره البعض طواعيةً احياناً للتخفيف عن بعض هذه الخسائر.
لا شك في ان بلال شحادات كاتب المسلسل كاتب مشبّع بكل اشكال المشاعر حتى تمكّن من ايجازها في مسلسل واحد ولو ان “الألم” هو عنوان المسلسل العريض، إلا انها من المرات النادرة التي نستمتع بتجسيد تفاصيله وهذه مهمّة انجزها بإبداع هذا الكاتب القدير الذي يلامس وجدان المُشاهد دون مبالغة ودون استعراض عضلات مخيّلته القادرة على توقّع أي شيء وهذا ما ميّز دائماً مسلسلاته التي تحاكي الناس مباشرة دون داعٍ لأي تباهٍ أو بهرجة كتابيّة.
لست ممّن يفضح تفاصيل مسلسل يُعرض الآن على منصة “شاهد” سيما وانه لم يتسنّى بعد للجمهور اللبناني العريض مشاهدته، الاّ انني افضّل إنصاف عباقرة هذا العمل المشاركين فيه فإنصاف المبدعين واجب كل اعلامي يؤمن ان كل نجاح يستحق الثناء والتصفيق كما يستحق كل اخفاق الانتقاد والتصويب.
انتقل مباشرة الى مخرج العمل، هذا المخرج اللطيف الهادىء والرصين الذي قد لا تعتقد انه مجنون ابداعاً وانه جريء وشجاع حدّ تحدّي نفسه في كل عمل جديد يقدّمه للجمهور العربي فأحياناً “الشطارة” لدى المخرجين ليست في ابهار العين والحواس فحسب انما في عدم خدشها او استفزازها وهذا ما يتفوّق به ايلي السمعان في كل مرة. مخرج شاب وعصري يعلم جيداً كيف يُحاكي الحداثة والتطور في الدراما وكيف يحاكي جمهور عريض من الشباب المنفتح على العصرنة الذي يقارن بين الدراما العربية والاجنبية، فيُرضي توقعاتهم وتطلعاتهم.
والديو الأنجح دائماً بين الورق والكاميرا هو الذي يعكس سحراً على الشاشة ولعل الثنائية هذه المرة بين بلال شحادات وايلي السمعان انتجت متعة بصرية وانسانية ودرامية هائلة وهذا ما يبرّر تصدّر المسلسل لـ top 10 منصة شاهد وحلوله في المرتبة الأولى.
انتقلُ الى الممثّلين المشاركين الذين نجحوا في الانصهار في ادوارهم وتكوين كتلة ابداعية صلبة، فشكّلوا فريقاً ناجحاً بالشكل والمضمون وساهموا الى حدّ بعيد بإنجاح هذا العمل المُتقن والمحترف.
عابد فهد في “شتي يا بيروت” ولّادة مشاعر فاضت على الشاشة ولامست قلوب كل المشاهدين، “توأم وجع” يبدع في محاكاة آلامه ويجاريها امام الكاميرات ونجح في استدراج تعاطف المشاهدين ودموعهم…
ممثل “ساحر” الحضور والأداء، صوت يرتجف قلقاً وألماً في آن وعينان تدعمان وتتحسران وتبتسمان في آن، خلطة عجيبة من الاحتراف المهني النادر يليق بنجم قدير بحجمه.
الثلاثي لين غرّة، ايهاب شعبان ورامز الأسود، ثلاثية سوريّة خُرافية مبدعة تجاوزت بإبداعها كل حدود الاستثنائية وعانقت العبقرية بكل اشكالها ونجحت في استدراج غضب المشاهد العربي الذي وقع في فخ حرفيتهم وابداعهم وخبرتهم فصفّق لابداعهم وتفوقهم امام الكاميرا على الرغم من كرهه لهم وهذه بالمنطق حصيلة اسمى درجات التميّز بالدراما.
اما السا زغيب فربما دورها في “شتي يا بيروت” من اجمل ادوارها على الاطلاق وهذه الزوجة المظلومة والمقهورة المُحجّبة استطاعت ان تفي رسالة بلال شحادات حقّها وتنقل بأمانة وابداع وصميميّة معاناة شريحة كبيرة من نساء وطننا العربي ونجحت في تثبيت اسمها في سجلات النجمات الدراميات اللواتي يستحقن الثناء والتقدير والتكريم. السا زغيب التي نجحت في كل دور قدّمته حتى اليوم في مسيرتها اختارت دوراً جديداً مركّباً ومُربِكاً ونجحت في ايفائه حقه باحتراف كبير دون زيادة او نقصان.
اما الثنائي جري غزال وزينة مكّي فنجح في ترويض غضب وحزن المشاهدين ومنحاه جرعة زائدة من الرومنسية والحب ولو كان في قالب مثير نتيجة علاقة حميمة مُحرّمة ومشبوهة، الا ان الكاتب والمخرج على حدّ سواء نجحا في تلطيف صورة العلاقة الخارجة عن الأصول والآداب ومنحاها آفاقاً رومنسية ومبهرة.
زينة مكي تتحدى نفسها في كل دور جديد تقدّمه وحين تعتقد انها قدّمت لك كمُشاهد كل شيء، تكتشف انك استخفّيت بموهبتها التي تفاجئك وتفرض نفسها عليك.
اما جيري غزال فكان هديّة ومفاجأة هذا المسلسل الذي اهدته شركة “الصباح” بحب كبير لجمهورها حتى ان المشاهدين جميعاً أجمعوا على عتبهم على الشركة بسبب مَشاهد جيري القليلة حتى الحلقة ١٢ وتمنّوا لو كُتبت له مشاهد اضافية مع زينة مكّي، فلهذا الشاب الوسيم القادم حديثاً الى عالم الدراما سحر وكاريزما نادرَين شرّعا له قلوب المشاهدين الذين تقبّلوه ودعموه منذ اللحظة الاولى.جيري غزال ممثل بالفطرة موهوب جداً عفوي وحقيقي غازل الكاميرا وبادلته الغزل وأنصفته حتى الآن وجاء دوره مع زينة مكي في هذا المسلسل ليكرسهما ثنائياً جديداً ممتعاً ومحبوباً في الدراما العربية.
يبقى ان نشيد بكامل كاست المسلسل الذي اكمل صورة النجاح بإتقان من بينهم فادي أبي سمرا، عبدو شاهين، إيناس زريق، حسين مقدم، فايز قزق، أمانة والي، فادي ابراهيم، عمر ميقاتي، جناح فاخوري، اسكندر عزيز، علي سكر وآخرين.
وفي النهاية لا بدّ من التأكيد على ان اغنية “عيش الدني” لبشار الجواد ساهمت الى حدّ بعيد بإضفاء روح استثنائية على العمل فترجمت الألم وخيبة الأمل في كلمات صاغها بدهاء وحنكة مازن ضاهر ولحنها فضل سليمان ووزعها عمر صبّاغ.
وعلى ذكر عمر صباغ فلا بدّ هنا ان ننصف هذا المبدع من لبنان الذي وضع لأول مرة في مسيرته الفنية الموسيقى التصويرية لمسلسل درامي الا انه ربما لم يعلم انه صاغ اروع موسيقى تصويرية على الاطلاق فموسيقى عمر صباغ فرَضَت ابداعها وجماليتها وعذوبتها والاحساس العالي فيها على كل مشهد من المسلسل حتى انها تفوّقت احياناً على الممثلين الابطال فقالت وجسّدت اكثر بكثير مما كُتب على الورق او صُوّر امام الكاميرات.
واليوم ننتظر بفارغ الصبر الحلقات المتبقية من المسلسل لنشهد على نجاح جديد لشركة الصباح الرائدة في تحويل المستحيل الى صورة عابرة للحياة على الشاشة.