في ذكرى رحيله: عاصي الرحباني.. الشرطي الأكثر رقّة من وتر الكمان

غنت ام كلثوم.. وقالت في أغنيتها الشهيرة ( غنيلي شوي شوي ) أنّ المغنى حياة الروح…. نعم المغنى هو حياة وغذاء للروح فهي ليست لغة مشاعر فحسب بل لغة فكر أيضاً.. أي انها لغة كاملة للانسان تتعدى حدود الزمان والمكان.. لغة عالمية يتواصل من خلالها العالم أجمع.. لغة تتناول من خلالها العواطف والحالات النفسية على انواعها والاصوات على اختلافها سواء كانت بالاساليب الشرقية او الغربية.. ومن هنا لا بد أن نقول ان الفنان المبدع الراحل عاصي الرحباني ظاهرة متميزة ، حيث اسس المدرسة الرحبانية التي لم تشغل العالم العربي فحسب ، بل شغلت العالم بأسره وعلى مدار عقود من الزمن.. وتستحق دراسة وتحليل لما افرزته خلال مسيرتها الطويلة من ابداعات فنية على صعيد الموسيقى..ـ

ولد عاصي حنا الرحباني الشقيق الأكبر لمنصور في بلدة أنطلياس.. نشأ في غابة الأرز وأشع على أرض لبنان وتعد ” القدس ” أحد أروع ما لحن للفنانة المبدعة فيروز وقد شكل مع أخيه منصور شمعة وسط ليل حالك ونغماً يسري مع نسيم الحرية وكانا صوتاً متميزاً في عالم الإبداع الفني .

لا يمكن الخَلْق بلا معالم. ولا معالم بلا هويّة. كان الرحبانيان يردّدان أنهما يكتبان للإنسان وعن الإنسان في المطلق، وهذا صحيح ولكنْ بغير المعنى التجريدي: إنسانهما ابن بيئتهما انطلاقاً وابن الإنسانية بعد ذلك. إن امتداد جذورهما في هذه البيئة وبَشَرها مكّنهما من أن يبسطا جناحيهما خارج الحدود.

كانت انطلاقة الأخوين رحباني في نادي انطلياس، حيث قدموا حفلات فولكلورية ومسرحيات غنائية. وقد أسهم تجاوب أهل أنطلياس في تشجيعهما الى حد كبير. تلقى عاصي ومنصور أصول قواعد الموسيقى العربية على يد الأب بولس الأشقر، وكان عاصي يتمرّن على آلة البزق الخاصة بوالده. وفي العام 1947 دخل الإذاعة اللبنانية كعازف كمان، ولكن بعد ذلك بدأ يقدم 16 لحناً كل شهر مثل “حكاية القرية” والثلاثي…

في العام 1950، بدأ التعاون مع السيدة فيروز أثناء دخولها الإذاعة اللبنانية مع الطلائع. ولقد أعلمه الموسيقار الراحل حليم الرومي برغبة فيروز (كانت في الخامسة عشرة) بدخول الكورس. وكان عاصي في حينها ملحناً ناشئاً، فخوراً بنفسه وبعد أن تعرّف الى فيروز لحّن لها الأغنية الأولى وكانت بعنوان “غروب”. وكان عاصي يعتبر أن هذه الفترة من حياته الفنية كانت صعبة للغاية، نظراً للمقاومة الشديدة التي واجهها الأخوين من قبل الموسيقيين الذين كانوا ينقضون نظرية الأغنية القصيرة، ويلحنون الأغاني التي تستغرق مدتها نحو الساعة ونصف الساعة.

كان عاصي الرحباني سيّالاً في التأليف، كما كان متمهّلاً في التعبير الشفهي. وحين يجلس إلى مكتبه ليكتب أو إلى آلته ليلحّن كان الوقت عنده يتوقّف. ولم يكن يحتاج إلى أكثر من شرارة لتتدفّق قريحته: لفظة، ذكرى، طيفُ فكرة، الباقي نهرٌ لا ينتظر غير إشارة ليطيح سدّاً كأنه مستعار.منذ استهلّ مسيرته في ريعان الصبا، بدا كأنه يختزن خبرة ومعرفة كبيرتين، هو الشرطي البلدي في انطلياس، الشرطي الأكثر رقّة من وتر الكمان، والقوي الجبّار الذي يُشعِركَ بأنه قادر على المستحيل. إنه لسرٌّ هذا الإعجاز. سرّ أيضاً تلك الإحاطة الموسوعيّة بالكاراكتيرات، والجمع بين الإسهاب في الجدل الشفهي والشرح التفصيلي، والإيجاز والتكثيف في الكتابة. سرّ أيضاً وأيضاً تمكّنه من الاستحواذ على متابعة المستمع عندما تغنّي فيروز حكاية، مهما تكن طويلة وأيّاً يكن موضوعها.قلائل يستوقفهم الوجه البشري كما كان يستوقف عاصي الرحباني. وسرعان ما كانت فراسته تطلع بنتيجةٍ تراوح بين الحكم والتكهُّن. كان مأخوذاً بمعرفة المخبّأ في الصدور، ولم يصرفه استغراقه في أفكاره الشاردة وراء لحن أو نغم أو فكرة عن استيعاب ما يدور حواليه.وكانت له ثلاث بهجات: بهجة الفطرة وبهجة الفضول وبهجة الشاعريّة. ولعلّها واحدة.

هكذا كان إدمانُ الشغل عند عاصي الرحباني أشبه ما يكون بإدمان السلطة إدمان مُنْهك لسلطة هي الوحيدة التي تعطي الشعب ذهباً محلّ التراب ونعمةً محلّ الخداع والترهيب. سلطة مثلّثة الأقانيم. ولم يقلّ إدمان صاحبة الصوت لحرفة الإسعاد هذه شغفاً وتشدّداً عن شغفِ عاصي ومنصور وتشدّدهما. الترهُّب وتسليط كل الذات على العمل . وسرعان ما جاءت النتيجة سلطة آسرة للقلوب بلغت حجم مملكة. لم يكن لأحدٍ من الثلاثة هواية غير العمل ولا عمل غير هذه الهواية.ـ

أشبع عاصي الرحباني جوعه إلى الواقع بابتكار الأحلام والأوهام حتّى جعل منها تراثاً وتربية. ونبش من الماضي الريفي ما يلائم مسيرته التحديثيّة، منقذاً الفولكلور من الفوضى والانحلال وربّما من الانقراض. لقد حوَّل الأحلام والأوهام والحكايات إلى واقعٍ، بل إلى حقيقة أشدّ حضوراً وحيويّة من الواقع وأكثر حقّاً من الحقيقة..ـ

في نتاجه الغني والكبير، يصعقك ذلك البذل الهائل النظيف، والهلوسة الابداعية التي كانت تنقص الآخرين. هلوسته الجميلة مكنته من ان يرى ما لا نراه، وما يفوتنا ان نراه، لبنان الحقيقي الجميل في فكرته، وبالآلام التي برحته، ولكن الخفيفة كوهم حين تحضر في المسرحيات وفي حنجرة فيروز. ليست فضيلته الكتابة الرهيفة فحسب، ولا المسرحة او الثورات الابداعية في مواضع، فضيلته وسّر عبقرية عاصي انه كان يفكر افضل من الآخرين. كانت الأفكار تنبت فيه. كانت اعجوبة الفن في صدره ورأسه قادرة على ان تذهب بنتاجه الى أبعد بعض الشيء من سواه من الفنانين.

صحيح ان ابداع عاصي ومنصور بدأ يظهر للناس في أوائل الخمسينيات وبحنجرة فيروز، على شكل اغنيات غربية خفيفة مترجمة للعربية، سوى ان الرحابنة وضعوا في الوقت نفسه «وقف يا أسمر» و«عتاب» و«مين دلك بالهوى عابيتنا» و«راجعة». منذ ان تحددت ملامح حنجرة فيروز في تلك البدايات، في استفادتها من خصائص الغناء الغربي، كان عاصي ومنصور يعملان على تعميق تلك الحنجرة وتأصيلها عبر تأليف اغنيات تحتوي المقامات العربية الخالصة مثل «السيكا» في (سوا ربينا) و«الراست» في (يا دارة دوري فينا) و«البياتى» في «فايق يا هوى». والحق ان دخول فيلمون الى تلك الشراكة الفنية للرحابنة عمق بدوره اتجاه حنجرة فيروز خصوصا في «فايق يا هوى».

عاصي الرحباني هو الإبداع في واحدة من أروع تجلياته، أما ملهمته فهي السيدة فيروز. التي تزوجها صيف 1954 ، وأنجبا زياد وليال وريما. وكانت مسيرة فنية جمعت ثلاثة عمالقة. ومع عاصي ومنصور وفيروز وصل الفن اللبناني الى القمم جمالاً ورقياً، وكانت له في ذاكرة الناس ووجدانهم آثار يصعب قياسها. وظلت أعماله سراجاً وجسراً. جسر يأخذنا الى الجمال بأبعاده الحقة، والى الوطن في أحلى صوره، والى القيم الإنسانية في أعمق تجلياتها.

واليوم في الذكرى الرابعة والعشرين على رحيل الكبير عاصي أقدم هذه المقالة هدية إلى روحه التي لا تزال ترفرف على الدنيا..

مقالات متعلقة

Back to top button

Adblock Detected

Please disable ads blocker to access bisara7a.com