رأي خاص – هبة طوجي غنت للآلهة وهرب صوتها بالحاضرين وبمدينة جبيل إلى اللا حدود

راكيل عتيق: حرصت اللجنة المنظمة لمهرجانات بيبلوس الدولية على تقديم أهم وأنجح الفنانين المحليين، العرب والعالميين كل سنة، كي تكون الحفلات صورة مشرّفة لمدينة الحرف.

للسنة الخامسة تعتلي الفنانة هبة طوجي المسرح المبني على “شط” مدينة الفينيقيين فتعيد بيبلوس بصوتها إلى زمن الآلهة.

لم يكن الحفل ليل الجمعة “لا بداية ولا نهاية” ، فبعكس معظم الفنانين بدأت الشابة الموهوبة مسيرتها الفنية من ومع أعلى “القمم” الفنية.على هذا المسرح وقفت إلى جانب الفنان غسان صليبا لتكون بطلة “صيف 840″، العمل المسرحي الرائع للكبير منصور الرحباني الذي أٌعيد تقديمه. من مسرحيات غنائية عدة وأعمال فنية مهمة مع الموسيقي أسامة الرحباني إلى المشاركة في برنامج (الصوت) بنسخته الفرنسية والتوقيع مع شركة الانتاج العالمية (يونيفرسال) والانجازات متتالية ومستمرة. لا حدود لشغف وقدرات هذه الفنانة الشابة ولا نهاية لأحلامها وطموحاتها.

ليس حظاً أن تشارك بأعمال المبدع الراحل منصور الرحباني وأن تغني من أجمل قصائده، بل إنه استحقاق عن جدارة وعن موهبة ، فقدم لها الخالق أعظم وأجمل “هبة” منذ الولادة. هبة غير مشروطة، غير مقيّدة وغير محدودة. هبة “الصوت”.

هذا الصوت الذي سيطر على حواس آلاف الأشخاص ليلة السابع من آب في جبيل. كيف نصف الصوت ؟ أهو جميل؟ قوي وقادر؟ عميق؟ ثابت؟ متمكن؟ مؤثر؟ مجبول من طين الاحساس والنقاوة؟ إنه كل ذلك وأكثر. لا حدود لقدرة صوت هبة طوجي ولا سقف يحول دون وصوله لما وراء الفضاء ولأعماق البحار صعوداً ونزولاً ، وكأنه ينشد للآلهة لا للبشر.

يُصنف غناء الفنانين وفق الألوان الغنائية ووفق مقدراتهم الصوتية. بالأمس أثبتت هبة طوجي أن الموهبة الحقيقية “لا تُعلّب” ولا تُحصر. فالصوت جماله بحريته وتحليقه وتمكنه من أي نوع غنائي.

أدّت هبة أغنيات بالعربية والفرنسية والانجليزية. غنّت الطرب والثورة والشعبي. غنّت أم كلثوم وداليدا وريهانا وستينغ.غنّت لمنصور الرحباني وقدّمت أجمل أغنياتها الخاصة بالإضافة لأغنيات ثلاث لأول مرة من توقيع غدي وأسامة الرحباني هي “أولاد الشوارع”،”يمكن حبيتك” و”بلد التناقض”.

كان هذا الحفل تاريخياً وعالمياً، فريداً ومميّزاً من كافة النواحي والمقاييس. لساعتين ونصف قاد المايسترو أسامة الرحباني السفينة التي أبحرت بالحضور إلى اللاحدود. هو “القائد الظاهر” وشريك النجاحات، “المعلم” الحقيقي ، “الاستاذ” الذي يقف فخوراً مزهواً بنتيجة عمله ليصفق للتلميذة التي أصبحت فنانة كاملة شاملة وعالمية.

إلى جانب الصوت الآسر ، عزف الاوركسترا الفيلهارمونية اللبنانية الرائع، اللوحات الغنائية الراقصة التي أدتها هبة ، والمكان المميز لهذا المهرجان بين البحر والسماء ، عوامل أدت لنجاح مطلق لهذا الحفل.

مميزة هذه الفنانة ، طبيعية شكلاً وأداءً ، أزياء بسيطة ، تسريحة شعر بسيطة ، كلمات بسيطة، وكل ما هو بسيط وطبيعي جميل. في زمن تطغى أزياء الفنانات وتسريحاتهن و”عمليات تجميل” وجوههن وأجسادهن على أدائهن وأصواتهن. أما هبة فلا حاجة لها لهذه الأدوات الاصطناعية. فهي جميلة ببراءة وجهها وصدق تعبيرها وأدائها القوي المتقن. أداؤها وازى صوتها لمعاناً وقدرةً وتمكناً.

كانت درجات الحرارة والرطوبة مرتفعة جداً وتصبّب الحاضرون عرقاً ، فكانت “الريح” ساكنة في حضور “الصوت” ، فبخلت تلك الليلة على الموجودين بنسمة هواء واحدة. لم “تحتج” هبة بحرارة الطقس الزائدة لتبرّر أي “ثغرة” بأدائها كمعظم الفنانين. ببساطة لم تكن بحاجة للاستعانة بأي مبرّر، فلما المبرّر؟ الحضور بحاجة لمبرر عكسي هذه المرة. الكل يسأل من أين لها هذه القدرة؟ كيف استطاعت تأدية هذا الكم المتنوع الصعب من الأغنيات طيلة ساعتين ونصف دون أي “ضعف” أي “رجفة” أي “بحة”. تأرجح صوتها بخفة وسهولة على الطبقات المختلفة راقصاً باكياً فرحاً.

سخّرت هبة طوجي صوتها خدمة للأغنية، واستخدمت أداءها لايصال الرسالة ، واندمج الصوت بالأداء بشكل احترافي رهيب. بكى صوتها عندما أدت ne me quitte pas وثار وصرخ تحية للشهداء مع مرور صورهم وهي تؤدي “لمعت أبواق الثورة” و”وحياة اللي راحوا”. رقصت كما غنت الشرقي والغربي، برقي واضح. دخلت المسرح مجددا بعد انهائها الحفل على وقع مناداة وتصفيق الجمهور الحار ، وكأنها بدأت من جديد! أدت أغنية” I can explain” للمغني العالمي ريشيل فاريل بإحساس واندماج وتأثر ، باتقان وقدرة وتمكن الكبار.

انعكس رقي الحفل على الجمهور، فكان الصمت الحاضر الأكبر والأعين مذهولة بوجود “صوت الآلهة” . صفقت القلوب فرحاً واستمتاعاً واندماجاً وطرباً أكثر مما صفقت الأيدي.

ها هي هبة طوجي تثبت أن الفن ليس “تسلية” وتعلي سقف المقاييس والمعايير “لصفة فنان” ، فأخذت الناس إلى مكان الفن الحقيقي . برهنت وأظهرت كيف يكون الفنان كاملاً وشاملاً ، فمن الصوت الساحر إلى الأداء الباهر إلى الأعمال الراقية ، حلقت هبة طوجي بعيدا ، وتميّزت عن الجميع دون استثناء. المنزل المبني على أسس هشة مهما تغير وتنوع وتبدل “ديكوره” ومهما كانت زينته فخمة ، فهو سيقع عند أول نسمة هواء. أما المنزل المبني على أسس سليمة فليس بحاجة للزينة ولا تهزه “الريح” . امتلكت هبة طوجي أساسا يكفي لبناء “أوطان” .

كتبت هبة طوجي على حسابها على انستغرام مباشرة بعد الحفل انها تركت قلبها على مسرح مهرجانات بيبلوس ولعلها لا تعلم ان اكثر من خمسة الاف قلب بقوا هناك ، تبعثروا هناك بين امواج شاطىء جبيل والسماء رافضين العودة الى واقع الفن الحالي الذي نعاه صوت هبة طوجي في تلك الامسية التاريخية على أمل ان يكون لنا في كل عام لقاء مع الصوت الحلم لحلم لبنان وأمله…هبة طوجي.

“أترى نحن الهربنا أم تراها هربت فينا المدينة” ليل السابع من آب؟ والحقيقة هي ان صوت هبة طوجي هرب بنا وبالمدينة إلى حيث لا عودة…

مقالات متعلقة

Back to top button

Adblock Detected

Please disable ads blocker to access bisara7a.com