خاص بالصور- حلّت عقد الشفاه فأخرس الموت شفتيها، فريال كريم… باقية ومشرقة في محطات صغيرة بذكراها
عندما دخلت عالم الإعلام، قطعت عهداً على نفسي بأن يكون لي كل سنة في ذكرى غياب فنانة الشعب فريال كريم مقالاً يحض قارئيه على عدم نسيانها أو تناسيها بالرغم من علمي اليقين أنّها ما زالت خالدة في قلوب وعقول كل مَن أحبها وعرفها وأنا منهم. تابعت خطواتها الفنية، ولم أكن بعد قد اخترت طريق “البحث عن المتاعب” بعد، لأكتب عنها في كل سنة، وأقول فيها ما كنت أود أن أقوله لها في حياتها لو حصل والتقينا. كم تمنيت أن ألتقي بها وأن تكون لي ولو محطة إعلامية صغيرة معها، ولكن القدر كان أقوى من ذلك ولم يحقق لي هذا الحلم. كنت أسمع الكثير عن وفائها وإخلاصها وتفانيها في العمل، وكنت أقدّر فيها كثيراً هذا التفاني والإخلاص وكنت أرى كما غيري ربما مثالاً للفنان المثالي من مختلف الوجوه.
كانت دائماً ذلك الإشعاع الفني الذي ألهب المسارح بالتصفيق والضحكات المتواصلة وجعل كل المستعمين والمشاهدين يستمتعون بأحلى الأعمال الفنية وأجمل النكات والقفشات والتقليدات والأغاني الممتعة. كنا ننتظرها دائماً وكأننا على موعد مع الابتسامة التي لا تنتهي وكنا نتمسك بها كأننا في قرارة نفسنا نشعر بأنّ وجودها بيننا لن يطول.
فريال كريم مع دريد لحام
ومع هذا اليوم نطفئ 23 شمعة من غيابها، ولكن الجرح ما زال مفتوحاً وينزف في كل سنة. فكل محبيها لم ينسوها ولم يستطيعوا ذلك بالرغم من إنشغالات الحياة التي تلهي الإنسان عن كل شيء. وفي هذه السنة قررت أن أضيء الشمعة عبر هذه الكلمات، والمحطات الصغيرة في حياتها الفنية والإنسانية من خلال هذا المقال، علني أفيها بعضاً من حقها الفني والإنساني. ففريال كريم فنانة كانت مثالاً للوفاء والاحترام والعطاء الفني المبدع حتى استحقت عن جدارة قبل غيابها لقب فنانة الشعب الأولى وبعد غيابها لقب شهيدة الفن.
ليل 3-4 تموز 1988 كانت ولادتها الثالثة. ولادة فنانة فارسة سقطت عن صهوة جوادها في ساحة معركة الفن وهي في عز عطائها الفني والإنساني. وطلع ضوء النهار على ظلام الموت الذي رفع تلك الروح الخالدة إلى أعالي سماوات الخلود من بين محبيها.
ربما كانت تعرف أن حياتها ستكون قصيرة فملأت الأرض فرحاً وألهبت المسارح تصفيقاً. وفي 6 تموز، لم تعرف أجراس كنيسة مار الياس بطينا إذا كانت ستقرع حزناً على غيابها أو فرحاً باستقبال العروس الآتية بفستانها الأبيض النقي مكللة بوشاح الغار.
كان سقوطها الأرضي مريعاً فهو حوّل الابتسامة والضحك الذي أعطته طوال حياتها إلى دموع غزيرة انهمرت وذهول كبير لف لبنان من أقصاه إلى أقصاه. وكان اللبنانيون كلهم يومها يتبادلون العزاء لأن كل واحد منهم شعر أنه فقد أختاً أو صديقة لن تكون بينهم بعد الآن.
في مثل هذا اليوم منذ 23 عاماً احتفل أهل السماء بوصول فريال كريم إليهم، وأقاموا لها عرساً من الفرح الدائم، وتركوا لنا الغصة واللوعة والدمعة. وفي الوقت نفسه كان أهل الأرض يحتفلون بوداع العروس، عروس المسارح والحفلات، فحملوها على الراحات في هودجها الأبيض الأبدي إلى مثواها الأخير. وبالرغم من أنّ كل شيء كان حزيناً، إلاّ أنّ صورتها الباسمة التي حملت بين أيدي رفاقها، كانت الفرح الوحيد في ذلك الاحتفال.
ما أقسى ذلك اليوم على أهل الأرض وما أعظمه وأحلاه لأهل السماء. واليوم وبعد 23 عاماً على هذين الاحتفالين، تعالوا نضيء معاً نضيء شمعة وفاء ونحض لبنان الرسمي الذي أفنت حياته في خدمتها على ان يذكرها بلفتة تكريم، بالرغم من إنشغالات الدولة بأمور كثيرة غير الفن.
الكلام يطول شرحه ولن نكون في وارد محاسبة أحد ولكن كل الشكر للمؤسسات الخاصة التي أعطت فريال كريم حقها من التكريم حتى بعد وفاتها.
فريال كريم مع ابراهيم مرعشلي
والمدهش في كل الأمر أنه، وبالرغم من مرور كل هذه السنوات على غيابها لا تزال شمعة فريال كريم مضيئة في قلوب وعقول كل مَن أحبها واحترمها وضحك معها. ومع هذه الشمعة المضيئة، فلنتذكر معاً أهم مراحل حياتها الفنية والإنسانية علّك ترى معنا عزيزي القارئ أن الفنان الأصيل والملتزم لن يموت حتى ولو اصبح سجين مقبرة مظلمة.
سنة 1948 كانت ولادتها الثانية، التي استمرت زهاء ثلث قرن من العطاء الفني المبدع من دون تعب ولا كلل، حتى أجهدت وهي فرحة ذلك القلب لم يعد قادراً على تحمل الفرح الذي أعطته.
كانت دون العاشرة من عمرها عندما ظهرت في الحفلات الخاصة وعندما بدأت تتفتح براعم موهبتها الفنية، كان يرى والدها في ابنته الكبرى ايزابيل موهبة فنية في غناء الطرب، فذهب إلى القاهرة بنصيحة من الفنانة نور الهدى ابنة خال فريال كريم وأخذ معه الصغيرة فيرا.
وبينما كانت الفرقة تتمرن، اعتلت فيرا المسرح وطلبت من الموسيقيين أن يعزفوا لها أغاني ثريا حلمي التي كانت مشهورة كثيراً بأداء أغاني المونولوج. وبدأت تغني بكل جرأة وبأداء جيد، وكانت نسخة لبنانية عن الطفلة المعجزة فيروز في مصر. وفي خلال السنة التي أمضتها هناك، ظهرت في فيلم “سكة السلامة” الذي أخرجه إبراهيم لاما من بطولة ابنه الطفل سمير فظهرت فيه كطفلة معجزة وهو الذي أطلق عليها اسم فريال فبقي الاسم معها واشتهرت به فيما بعد. ومن هناك انطلقت في رحلة من الدمع والابتسام والفن الأصيل الذي لا ينضب.
كان مسرح فاروق الحاضن الأول لفريال كريم ذات الثلاثة عشر ربيعا، وهذا هو المسرح الذي احتضن في ذلك الوقت أهم الفنانين الكبار أمثال المبدع الكوميدي الراحل إسماعيل ياسين وكارم محمود ومحمد عبد المطلب وغيرهم، وتعرّفت هناك على المطرب محمد كريم الذي أصبح فيما بعد الزوج والصديق والأب الحنون والراعي الأول لكل خطواتها الفنية. فهو تخلّى عن كل أحلامه الفنية ليتفرغ لرعاية هذه الموهبة الفنية الفذة.
وفي العام 1954 كان الحب أقوى من الفارق العمري والديني الذي جمع بين قلبي فيرا بشارة سمعان ومحمد كريم. فقررا الزواج خطيفة بالرغم من معارضة الأهل. فأصبح هو كل حياتها وأصبحت هي ضحكة البيت الذي أسساه على هذه العاطفة السامية. فكانت مثال الزوجة المطيعة والفنانة الملتزمة التي لم يؤثر الفن يوماً على عائلتها الصغيرة التي أثمرت ولدين منى التي ورثت عنها الموهبة الفنية الأصيلة والالتزام الفني وسمير الذي يتابع حياته العملية بعيداً عن الفن.
انطلقت من مسارح دمشق حيث عاشت مع أبو سمير 7 سنوات لتعود بعدها إلى بيروت وتتعرف من خلال أختها إيزابيل التي كانت تعمل في الإذاعة اللبنانية على الفنان محمد شامل ليؤسسا معاً مشواراً فنياً طويلاً بين الإذاعة والتلفزيون والمسرح بدأت مع يا مدير في الإذاعة وانتهت بـ”الدنيا هيك” في التلفزيون.
تنوعت أدوار فريال كريم وكانت كلها تميل إلى الكوميديا وتبتعد عن الحزن، فكانت تقول دائماً: “لا أطيق نفسي حزينة حتى في التمثيل”. في مسرح شوشو كانت دائماً النجمة المتألقة وكانت تبتدع النكتة على المسرح. وكل إبداعاتها الفنية كانت تبرز في مواجهة الجمهور على المسرح، لأنها كانت تعتبر الفن كالعبادة عمل مقدس.
فريال كريم مع الياس رزق
جمعت أطراف المجد الفني من كل جوانبه، على المسرح تألقت من خلال مسرحيات شوشو، وشاركت صباح في عدد من أفلامها ومسرحياتها، واتجهت في السنوات الأخيرة إلى الغناء.
مثلت في السينما فأبدعت وكان لها محطات مع عدد من الأفلام نذكر منها عتاب مع سميرة توفيق وفندق الأحلام مع دريد لحام، كرم الهوى مع صباح، وغيرها الكثير لا يتسع المقام لذكرها الآن.
على المسرح هي الملكة المتوجة تتربع على عرش الكوميديا من دون منازع. احتضنها مسرح شوشو لثلاث سنوات فأبدعت وشكّلت مع شوشو ثنائياً كوميدياً مسرحياً ما زلنا نفتقد مثيله لغاية اليوم. كانت تكره الأدوار المكتوبة، ولولا تقديرها للفنان محمد شامل لما قبلت ان تمثل معه في الدنيا هيك. وظهرت موهبتها الفذة في التقليد. كانت تقلد كل الفنانين بطريقتها الخاصة، من الراحلة الباقية سلوى القطريب التي شاركتها في عمل تلفزيوني، إلى صباح وفيروز ومحمد عبد المطلب الذي هنأها وراء كواليس المسرح بعد أن قلدته. وكان بعضهم يطلب منها ان تقلده مباشرة وكان البعض الآخر ينزعجون إذا لم تقلدهم.
وفي السنوات الأخيرة من عمرها الفني والإنساني قدمت العديد من الأغنيات احتلت مكانة مهمة في بورصة الأغاني في ذلك الوقت منها: “جارنا الشاويش”، من غير هواك، عم بيزعلني للو وغيرها. وأصدر لها الفنان الياس الرحباني كاسيت حمل توقيعه. فكان حب الجمهور يزداد لها باستمرار ويوماً بعد يوم، وقد بادلته هي الحب والاحترام والالتزام الفني.
في التلفزيون كانت فريال كريم تدخل القلوب والبيوت من دون استئذان بفنها الرائع وظرفها وخفة ظلها. بدأت ببرنامج شارع العز وتألقت في دور أم خبار مع سامي الصيداوي حيث لعبت فيه دور البطولة أم خبار التي كانت تنقل أخبار الحي وتنتقدهم بطريقة ظريفة وبعيدة عن الإسفاف والضحك المبتذل الذي نراه اليوم في فننا الكوميدي. وكان تألقها الكبير ظاهراً في برنامج الدنيا هيك مع محمد شامل وكم كانت تحصل مواقف طريفة في خلال البرنامج تدعو الجميع إلى الضحك حتى في البلاتوه أثناء التمثيل. كما شاركت في عمل استعراضي تلفزيوني مع الفنانة الراحلة سلوى القطريب لحود. وختمت أعمالها الفنية التلفزيونية مع إبراهيم مرعشلي في إبراهيم أفندي وعدد من الفنانين اللبنانيين. وشاركت أيضاً أبو سليم في مسلسلاته، وأيضاً في مسلسل عيوق ورفقاتو وحكمت المحكمة وساعة وغنية وغيرها.
ويوم الأحد في نيسان من العام 1938 كانت ولادتها الأولى، ولادة فتاة صغيرة وهي تضحك، أطلقوا عليها اسم فيرا، وكان والدها بشارة سمعان موظفاً في البريد، ووالدتها ماري سيدة منزل. وهي الفتاة المدللة لعائلتها المكوّنة من خمس بنات وصبيان. كانت فيرا ضحكة البيت التي يحق لها ما لا يحق لغيرها، فهي منذ طفولتها كانت تعاني من الروماتيزم الذي أضعف قلبها الذي كان سبباً في سقوطها. لذلك كان والدها يغض النظر عن تصرفاتها. ومنذ طفولتها كانت تهوى تقليد الضيوف الذين يأتون لزيارتهم في المنزل بعد رحيلهم، لتضفي على البيت الصغير جواً من المرح والبسمة. وفي المدرسة كانت هوايتها المفضلة تقليد المعلمات والتلاميذ.
وعرفت الحزن للمرة الأولى عندما توفي والدها وهي بعد في سن صغيرة. لم تعرف يومها ما هو الموت او لماذا لم تعد ترى والدها. فحوّلت كل عاطفتها إلى والدتها. وكانت صديقتها المفضلة والحميمة أختها كلير التي تكبرها بسنة ونصف والتي تزوجت فيما بعد الفنان الكوميدي السوري سعد الدين بقدونس.
فريال كريم السيدة الأنيقة باستمرار، المرحة حتى في أصعب الظروف حزناً، كانت انسانة خجولة كثيراً. الصبر والتفاني والإخلاص هما السمات الأساسية في حياتها. مطيعة لرب البيت ومتفانية رغم انشغالاتها الفنية في تربية أولادها. مولعة بالأطفال، صريحة من دون أن تجرح أحداً. وكان الإيمان يلعب دوراً كبيراً في حياتها وهو كان السبب الرئيسي في عطائها الفني البارز بالرغم من كل الصعاب التي تعرضت لها في حياتها الفنية والإنسانية. بالإضافة إلى أنها كانت لا تحب الخروج من المنزل إلا لزيارة المقربين. كان بيتها مفتوحاً لكل الناس، تستقبلهم بكل رحابة صدر، وتلعب معهم طاولة الزهر التي كانت تحبها كثيراً.
هكذا يولد الفنانون العظام، وهكذا يرحلون، بشموخ وعزة وقوفاً حتى ولو سقطت آخر ورقة من حياتهم. القلب تعب ولم يعد يستطيع تحمل المجهود الفني والإنساني الذي تحمّلته. فسكت وذهب وبقيت هي ولا تزال سيدة الفرح الأولى والأخيرة والملكة المتربعة على عرش الكوميديا في لبنان. وكما الكبار، لا يزال مكانها فارغاً لن يملؤه أحد مهما طال الزمان.
وبعد، سكت القلم، وعجزت الكلمات عن المتابعة. فلو استطعنا لكتبنا وملأنا صفحات وصفحات من كلمات لا تفيها حقها. ولكن القلم يعجز عن التعبير عما يعتمل في القلب من غصة وحرقة لمغادرتها دنيانا الحزينة والتي نحتاج كثيراً في كل يوم فيها إلى ضحكة فريال كريم.
وبعد 23 عاماً لا تزال روح فريال كريم ترفرف على كل الذين بقوا على وفائهم لها. على أمل أن نرى لفتة تكريمية رسمية ستوفيها بعضاً من حقها في ظل التجاهل من الإذاعات والتلفزيونات من لبنان البلد الذي أحبته حتى العبادة ورفضت أن تغني وهو يحترق في عز الحرب. وكانت كلما حلت وارتحلت أعظم سفيرة فنية ضاحكة ومخلصة لوطنها الرسالة.
انتحر الفرح في غيابك، يوم ودعناكِ، ودعناه معكِ إلى مثواه الأخير، لأنّه لم يعد يستطيع أن يرانا نبكي الأمل فاختار الذهاب إلى حيث اللارجوع. من دونكِ الساحة الفنية والإنسانية فارغة. وكما الأقانيم الثلاثة متحدة في أقنوم واحد، هكذا فنّكِ أقانيم ثلاثة تمثيلاً وغناءً وتقليداً..
فيا سيدة الضحك الأولى والأخيرة في لبنان والعالم العربي، أنت تستحقين كل تقدير وكل احترام. وهذا التقدير والاحترام ليس شيئاً بعد رحيلك، فلبنان الذي أحببته ما زلنا ننتظر منه أن يوفيك حقك من التكريم بإصدار جائزة سنوية تحمل اسمك عن أفضل عمل كوميدي أو حتى إطلاق اسمك على احد شوارع بيروت. فهل يطول انتظارنا؟
صلي لنا من عليائك علنا نجد الفرح والسلام الداخلي الذي كنت تعكسينه لنا في حياتك. ولا تخافي على من أعطيتها فرح الرسالة فهي أمينة على العهد وتعمل وتحفظ كل ما تعلمته منك.